خضر عطاف المعيدي

النقطة العمياء التي أعمت بصائر المترجمين!

الخميس - 02 مارس 2023

Thu - 02 Mar 2023

مما ورد عن الجاحظ أنه قال «ومتى وجدناه أيضا قد تكلم بلسانين، علمنا أنه قد أدخل الضيم عليهما؛ لأن كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى، وتأخذ منها، وتعترض عليها...» - كتاب الحيوان -.

كل من يتأمل هذا النص الجميل للجاحظ سيتيقن بأن الجاحظ قد سبق الغربيين بعقود حينما أشار لأشهر نظرية في اكتساب اللغة وهي نظرية «التعارض اللغوي» Interference وفي الجانب الآخر يتبادر للذهن كيف وضع الجاحظ أُس الترجمة وكيف أن كل لغة تؤثر على الأخرى سلبا وإيجابا وأن أمر الترجمة ليس مجرد حشو يقوم من خلاله المترجم بالبحث عن الرديف اللغوي من نظام لنظام وإنما في الجمع بين الوشائج الثقافية ورقع كل فرجة ثقافية خلفتها الحدود الجغرافية واللغوية وتنوع الأعراق.

وأتألم كما يتألم كل عاقل وغيور كيف تم ابتذال الترجمة -ذلك الفن الرفيع-. فهذه مواقع التواصل الاجتماعي حُبلى بالمترجمين ومن قد رصعوا صفحاتهم بسير براقة وأغلبهم بينه وبين الترجمة كما بين مشرق الشمس ومغربها، وإلا أين هم عن «Blind Spot» التي ترجموها بـ»نقطة عمياء» ونسوا بأنها «انعدام الرؤيا» وأين هم عن أضخم شركات الصناعة والإنتاج التي وضع المترجم الحاذق فوق غسالة أنتجتها الشركة هذه الترجمة للفظة «Drain» «نزيف» وأتساءل: أي نزيف قد نزفته الغسالة المسكينة! وأجد حاذقا آخر قد ترجم «Fresh flowers» بأنها «ورود طازجة» وكأن المترجم كان جائعا فأغرته رائحة اللحوم الطازجة عن عبق الورد الندي.

أليست هذه الأمثلة وغيرها مما تعج به اللوحات الإعلانية ولوحات المتاجر الكبرى ولوحات الطرق وغيرها من نتاج مترجم متطفل على الترجمة ظن أن الترجمة إنما هي البحث عن الرديف اللغوي وليس في الغوص في أعماق الفكر الإنساني فخدع بذلك زبائنه الذين لا يفقهون من اللغتين شيئا وما نكهة آيسكريم «البلغم» «Bubble gum» عن الناس ببعيد!

سأعطيك مثال من ترجمة وتقارنها بترجمتي لتعلم الفرق ما بين الغوص في الفكر والغوص في المفردات. خذ على سبيل المثال هذه الحكمة الإنجليزية:

«Familiarity breeds contempt, while rarity wins admiration» والتي ترجمها البعض: «الألفة تولد الاحتقار بينما الندرة تكسب الإعجاب» ولك أن ترى كيف صفّدت الألفاظ المترجمَ حتى خرج بلفظة «تولد» لأنها رديف لـ breeds وخرج بلفظة تكسب «wins» بينما لك أن تنظر لترجمتي لها بطريقة سهلة كالتالي: «كل قريب غريب وكل غريب قريب».

وحينما نتحدث عن الأدب والشعر يكون الحديث عن الترجمة كالحديث عن الصراط المستقيم فهو أدق من السيف فإما أن يهوي بصاحبه في جهنم أو يدخله للجنة.

أتعجب كثيرا كيف ينقل الشعر الإنجليزي لنا نثرا باهتا قد فقد بريقه وطعمه وكل ذلك بسبب عبث العابثين ممن يرون بأنهم من المترجمين. أمنيتي الانتباه لهذا العبث الذي حبلت به الساحة وليعلم الجميع أن الترجمة كالنار فهي «مطيعة إن خدمت وفتاكة إن سادت».