خضر عطاف المعيدي

الابتعاث: الموتة الصغرى!

الاثنين - 31 أكتوبر 2022

Mon - 31 Oct 2022

تمنح الحياة الإنسان فرصا عظيمة لكي يتعرف من خلالها على جوانبها المتعددة، ولعل أهم هذه الجوانب التي تمنحك تجارب الحياة إعادة النظر فيها هم «الناس».. وما أدراك ما الناس؟

لعل من التجارب الجميلة التي تمر على الفرد الابتعاث، وهو في نظري الموتة الصغرى فبه تودع الأحباب، ويحمل نعشك الكثير من الناس إلى بوابة المطار، وهناك تذرف دموع التوديع وتسكب العبرات ويخيم الحزن على الفراق، ويكثر المشيعون من حولك، ولكن سرعان ما تقلع الطائرة مغادرة أرض الوطن، وقد نفض الكل غبار التوديع وكأنهم قد أودعوك تابوتا يحلق بك في السماء وليس وسيلة انتقال!

بالابتعاث تبتعد الأجساد عن بعضها ولا تبقى إلا الذكرى الجميلة وبها يقضي المبتعث حياته «البرزخية» بتذكر الأحياء الذين ودعهم، وفي الوقت نفسه يتذكر الأحياء حال ذلك الميت –المبتعث - ولا يمتلكون سوى الدعاء له بأن يثبت الله قدمه في الابتعاث، وتتقلب الأمور، وتجري الأيام والشهور وتنتفض من خلف ذلك المبتعث الأيدي، وتتساقط المشاعر والأقنعة تجاهه كما تتساقط أوراق الخريف، فلا يتذكره إلا من أحبه بصدق، ومن اشترى مودته لذاته وليس للمصالح التي هشمت أجمل ما في الحياة.

وتستمر دفة الحياة فلا يتذكر الناس المبتعث إلا إذا أتت سيرته فيترحمون عليه وكأنه فعلا بقبر وليس في وطن آخر يكمل دراسته، يقل السؤال عنه وكأنه في عصر «الحمام الزاجل» وليس في عالم الجوال والتواصل الافتراضي والإنترنت، وإذا ما ألقتك الحياة مصادفة بأحضان أحدهم بعد البعثة ليبادر بسؤالك وكأنك قد بعثت من القبور وأنك في عرصات القيامة ليقول لك «أين أنت كل هذه الفترة؟»

إنه الألم الذي يعيشه أغلب الأفراد الذين عاشوا الابتعاث، وهي فرصة لهم من الله بأنهم كانوا في قبور الحياة فعلا، ليعرفوا من يتواصل معهم ومن قد انقطع، بذلك يعلم بأن من لم ينسه بتواصله معه وهو قابع في زوايا الكون، بأنه ذو معدن نفيس يستحق الحفاظ عليه لآخر قطرة من الحياة، وأن من تناسوه لا يعدون سوى أناس اتخذوه جسرا لتمرير مصالحهم، أو لقضاء وقت فراغهم على حسابه وشتان ما بين الاثنين.

أليس الابتعاث موتة صغرى.. وحياة برزخية من نوع آخر؟!

رحم الله المبتعثين والمبتعثات وثبت الله أقدامهم لنيل أعلى الدرجات.