أحمد الهلالي

الوجه الآخر بين الطبيعة والإرغام!

الأربعاء - 22 يونيو 2022

Wed - 22 Jun 2022

لكل منا عدد من الوجوه يظهرها بحسب دوائر علاقاته، فالدوائر القريبة منه جدا ترى غالبا وجهه الحقيقي، أو القريب من الحقيقي بحسب نوع الشخصية بين التلقائية والتحفظ، وبحسب ثقتها في الآخرين، ثم كلما ابتعدت الدائرة تضيق مساحة الوجه الحقيقي ويظهر ما يسمى الوجه (الرسمي) الذي يتعامل مع الآخرين بنوع من التحفظ، قد يصل إلى الحذر أحيانا بحسب البيئة التي يتعاطى مع أفرادها، لذا تجد الإنسان يشعر بالإرهاق بعد بعض المناسبات الاجتماعية، أو بعد ساعات العمل، لأنه لم يكن على طبيعته، فيهرع إلى مجتمعه الذي يتحرر فيه من جل تلك القيود، ولا يمنع هذا أن تتسع الحدود أو تضيق بحسب الشخصيات، فقد تجد شخصية متحفظة جدا حتى في دوائرها الضيقة، وقد تجد شخصية تلقائية تتسع حدودها، لذا يشيع استخدام «وسيع وجه» على المستوى الشعبي عن مثل هذه الشخصية.

من جهة أخرى حين يختلف اثنان يقول أحدهما «سأظهر لك الوجه الآخر»، وهذا الوجه حقيقة هو الوجه الخفي للشخصية الذي لا تفضل أن يراه الآخرون، لكنها تضطر لإظهاره في بعض المواقف، وهو أمر يتعلق بردة الفعل على استفزاز أجبر الشخصية أن تظهر الوجه الخفي، وهو غالبا وجه يناقض الوجه الأول، كأن يكون متجهما غاضبا أو مستهزئا على قدر الفعل المستفز.

كل ما سبق طبيعي في المجتمعات الإنسانية، لكن هناك حالات لإخفاء الوجوه الحقيقية لا تكون طبيعية، بل تلعب البيئة الاجتماعية دورا بارزا في تشكيلها، تجبر من خلالها أفرادها إلى التماهي مع تلك البيئة، وهو ما يسمى (النفاق) دينيا واجتماعيا، حين يضطر الفرد إلى صبغ ذاته بألوان المجموعة الاجتماعية مسايرة للتوجهات، والصبغة تتعدى (إظهار/ إخفاء الوجه) إلى المظهر، فينعكس الفعل على الهيئة والملابس واللغة والأفعال، ويظهر الوجه الخفي (الحقيقي) في دوائر ضيقة جدا، ويكون مغايرا جدا لما هو عليه في بيئته المعلنة، وهذه الشخصية من أكثر الشخصيات عذابا لأنها تظهر مرغمة بمظهر زائف يضاد قناعاتها وأفكارها، فتضطر لدفن الوجه الحقيقي تحت ركام الزيف، يشيع هذا في المجتمعات المتدينة والمحافظة (المتزمتة)، وكانت تمارسه الشخصيات في مجتمعنا أثناء استبداد الصحوة، وبعض الشخصيات (المتوجسة) اضطرت إليه بعد زمن الصحوة مسايرة للمرحلة، ترى ذلك ظاهرا في الملابس وتقصير اللحى وكذلك في التظاهر -على مضض- بتقبل ما لم يكن مقبولا بالأمس.

الوجه (المنافق) تضطر إليه الشخصيات تحت ضغط هائل للحفاظ على مصالحها ومكتسباتها، فثمن التخلي عن الوجه الزائف باهظ جدا، وهذا الوجه يفرضه أب قاس، أو مسؤول متعجرف، أو مدير أحادي النظرة، أو مجتمع لوّام يفرض على أفراده قيودا صارمة، تكون عواقب تخطيها مؤلمة، ولا تجد الشخصية الشجاعة الكافية لإظهار الوجه الحقيقي، وكم من شخصية انكشف عنها الغطاء، وشعر المقربون منها بالصدمة، ولا يخفى ما للشخصيات المنافقة من خطر على الأسرة، وعلى قرارات المؤسسات، وعلى بنية المجتمع.

لا أفترض أن نكون طبيعيين بين ليلة وضحاها، وهذا يدفعني إلى التفكير في أهمية العمل على صناعة بيئات طبيعية، يشعر فيها الأفراد بحريتهم في الاختيار والقرار، يبدأ ذلك من المحضن الأول (الأسرة) حيث يفترض أن تمنح أفرادها مرونة في الاختيار، وألا تكبلهم برؤية الوالدين أو الإخوة الكبار، وهذا لا يعني ترك التوجيه والقدوة الحسنة، والتنبيه على مواطن الخطر، وتدارس قرارات الأبناء وحثهم على ما يحقق الأصلح، ثم في بيئات الدراسة والعمل يجب أن تكون شخصيات المعلمين والقياديين محفزة ومتقبلة لاختلاف الرأي والأفكار والأطياف، وحتما سيؤتي هذا التوجه ثماره على المستوى الاجتماعي، ويخفف من نبرة اللوم والتشنيع، وحدة القيود الاجتماعية التي تلجئ أصحاب الشخصيات الضعيفة أو المستلبة إلى التماهي والزيف.

ahmad_helali@