مرزوق بن تنباك

الثقوب السوداء في الأرض

الثلاثاء - 21 يونيو 2022

Tue - 21 Jun 2022

رغم حداثة المدينة في بلادنا وأهمية وجودها وازدهارها إلا أنها بدأت تلتهم ما يحيط بها وما يقرب منها من القرى والهجر والبادية، وتسارعت وتيرة الانتقال إليها بشكل يدعو إلى النظر والتأمل في مستقبل المدينة نفسها والريف المحيط بها، فتوسعها وتضخمها وامتدادها على مساحة كبيرة من الصحراء المفتوحة جعلها ثقبا أسود يلتقط كل ما يقرب منه أو يحيط به؛ فيلتهمه ويحرقه ولا يعيده ولا يخرجه، والمدينة ليست بهذا الجمال الذي نراه ونريده إذا سطت ببهجتها وبهرجها على جيرانها الريف والقرى والبادية، هذا الثلاثي المهم للمدينة هو معينها الذي تستمد منه قوتها وجمالها وحاجاتها، وهو ذراعها الأقوى الذي تمده حولها ليكون شريان الحياة لوجودها واستمرارها، وإذا احتوته وضمته على صدرها وأصبح جزءا منها انقطع شريان حياتها وتصحر ما حولها ولم يعد لها ذراع يساعدها لتأدية وظيفتها كما يجب أن تكون.

إن التصحر المخيف الذي تواجهه المملكة اليوم هو هذا الانتقال السريع من القرى والبادية والريف إلى المدينة، ولهذا التمدد أخطار كثيرة نذكر منها:

أولا: الاتساع العشوائي في اتجاهات المدن الأربع مما يسبب ترهل خاصرة المدينة وأطرافها ويشوه جمالها فلا تستطيع القيام بواجبها، حيث تفقد في سعتها وترهلها قوامها الطبيعي ورشاقتها التي يجب أن تكون عليها وألا تزيد حمولتها عما لا تستطيع القيام به.

وحمولة المدن هو هذا التراكم غير المدروس والهجرة العشوائية إلى المدن وتسارعها في السنوات القليلة الماضية التي حدثت قبل التنظيم لها والاستعداد لتحملها، هذا من جانب ومن جانب آخر فإن أسنان المدينة حادة لا ترحم وقاسية لا تصمد أمام قسوتها تلك الأيدي القادمة إليها ببراءتها وبساطتها من الريف والبادية التي لم تتعود تعقيد المدينة ولا تستطيع تحمل تكاليفها الباهظة ولا تعرف دهاليزها الخفية لكسب المال وتنميته وحيل الوصول إلى الإغراء والإثراء، ويبقى هؤلاء فيها غرباء فتقوى حاجاتهم إلى مطالب المدينة وضرورات الحياة فيها وتعجز إمكاناتهم ووسائلهم وقدراتهم عن الوفاء بما يريدونه منها حين قدموا إليها، وفي هذه الحال يكون طغيان المدينة وسطوتها مدمرا لكلا الطرفين للبادية والريف وللمدينة ومن يعيش فيها.

إن تكلفة العيش في المدينة كبيرة جدا على ساكنيها الذين أمضوا جل أعمارهم فيها وتكيفوا معها فكم تكون تكلفتها على الطارئين الجدد الذين يأتون إليها من مجتمع القرية والهجرة وسلاحهم الرغبة في عيش أفضل مما كانوا فيه ووسائلهم لا تحققه ولا تنهض به.

ثانيا: التصحر المخيف الذي يخلفه المهاجرون إلى المدينة في قراهم وهجرهم التي خلت منهم أو تكاد تخلو حين يتركون ما وراءهم من سبل الحياة السهلة الميسرة من الزراعة والرعي ووسائل عيشهم الذي اعتادوا عليه وتكيفوا معه، مع أن القرى والهجر تمد المدينة ببعض ما تحتاجه وإن لم يكن كافيا فإنه مساعد بوجوه كثيرة، والهجرة غير المنظمة العشوائية وتفريغ الريف من سكانه لا يمكن أن يكون في صالح الريف والبادية ولا في صالح المدينة.

ثالثا: لكي نعيش التوازن الطبيعي بين الريف والمدينة يجب أن يتحقق التوازن بين المدن والقرى وأن يتحقق للريف تنمية مستدامة توفر أساس الضروريات للحياة المعاصرة كالطرق المريحة وخدمات الكهرباء والخدمات المساندة والمساعدة التي تتوفر في المدن وكل ما يشجع النمو الذي يساعد أهلها على البقاء فيها بل يشجع سكان المدن بالعودة إلى قراهم وباديتهم والمشاركة بنموها، وذلك ما يخفف من اكتظاظ المدن وازدحامها وارتفاع تكاليف الحياة فيها، وينعش الريف وييسر الحياة فيه فيكون التكامل بينهما وتخف زحمة المدينة واكتظاظها.

Mtenback@