أحمد الهلالي

عيون ينبع وجن سليمان والتراث العالمي!

الثلاثاء - 23 نوفمبر 2021

Tue - 23 Nov 2021

زرت ينبع مع نخبة من أدباء ومثقفي المملكة، بدعوة من الأديب الدكتور سعد الرفاعي، تقدم الوفد الدكتور عبدالعزيز السبيل رئيس مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، واستقبلنا بأكرم استقبال الداعي ومحافظ ومشايخ وأعيان ينبع الكرماء، الذين أكرمونا بالتجوال في ينبع البحر وينبع الصناعية وينبع النخل ومحافظة بدر ومحافظة أملج، وكانت كل المعالم والأماكن التي زرناها، والمعلومات التي استقيناها فريدة ونوعية، يأتي في مقدمتها اللقاء التاريخي بين جلالة الملك المؤسس والملك فاروق، الذي انبثقت عنه فكرة إنشاء جامعة الدول العربية، وكانت من ثمراته.

لعل أكثر ما لفتني، وشد انتباهي، وتملك أقطار تفكيري واهتمامي، حديث أهالي ينبع عن (العيون)، فاعتمل الشوق في صدري منذ الليلة الأولى لرؤية عيون ينبع النخل، وتضاعفت رغبتي إلى ذلك بعدما شرح لي الشيخ عبدالرحيم الزلباني بأسلوبه الدقيق، فقال عنها: «كانت أكثر من 300 عين، تسقي مزارع ينبع النخل في قرى مختلفة، لكنها انقطعت وجفت منذ ما يربو على 27 سنة، ثم ظهر بعضها قبل خمس سنوات، فتقلص عددها إلى 23 عينا» وكنت أظنها عيونا طبيعية، لكنه قال: «إنها مصنوعة بهندسة فريدة، تمتد على مساحة يزيد طولها عن 8 كيلومترات، وقنواتها تحت الأرض في عمق يزيد عن 20 مترا في بعض الأماكن، ويقل تدريجيا كلما اتجهنا غربا، ثم إن لها قنوات صاعدة (فتحات تتجه للأعلى) تسمى الواحدة (الفقير) تشبه (المنهول)، ربما مهمتها تهوية المجرى المائي، وكذلك تفيد للنزول إلى القنوات لأعمال الصيانة والتنظيف حين يقل جريان الماء أو ينحبس».

وحول تصميمها الهندسي لاستيعاب حركة الماء، قال: «ابتكر منشئوها هندسة الالتواءات كي يخففوا من قوة اندفاع التيار المائي، وهي كذلك مسقوفة بحجارة صغيرة عجيبة ملتحمة مع بعضها دون مادة معززة».

وحين زرنا بعض العيون ووقفنا عليها شاهدنا عجبا، وسمعنا من المشايخ حديثا شيقا عن النظام الذي يديرون به الوجاب (حصص الملاك من الماء)، والأموال التي يجمعونها لصيانتها باستمرار، فكان الأمر دهشة على دهشة.

لا يزال جل أهالي ينبع يجهلون الحضارة التي هندست تلك القنوات المائية العجيبة، إلى درجة أنني سمعت بعضهم يقول أنشأتها (جن سليمان) وهذا كاف لنتخيل مقدار إعجازها في نظرهم، وهي كذلك في الحقيقة معجزة قياسا بالمعلومات الشحيحة عنها، فيظل الفكر في ركض مستمر لالتقاط شيء يروي عطش السؤال، أما عن انقطاعها مدة طويلة ثم عودتها، فهناك من يتأول أن السد الذي أنشئ لحماية ينبع الصناعية كان له دور في ذلك، وقد عادت بعد أن رفع من قاعه كم هائل من الطمي، وبعضهم وافقني في تأول دور لهزات (العيص) التي ربما حركت بعض الرواسب المسببة لانقطاع جريان العيون.

وأيا كان، فإني مندهش في أن يظل الناس في حيرة وبحث عن تفسيرات في وطن غني بالمؤسسات العلمية والأكاديمية والمراكز البحثية المختلفة، فعيون ينبع حقيقة بالدراسات العلمية، والبحث التاريخي، والبحث الأركيولوجي الذي يجلي حقيقتها، والعمل على ضمها إلى قائمة التراث العالمي، وتقديمها معلما سياحيا وطنيا، مع استمرار عطائها لإنسان ينبع الكريم المعطاء.

ومن هنا فإني أتوجه بهذه المقالة إلى وزارة السياحة، وهي القديرة الحريصة على كل ما يفيد الوطن والمواطن، وفي أعماقي يقين جازم بأنها ستبادر إلى مضاعفة الاهتمام بعيون ينبع، وتجنيد الطاقات العلمية والبحثية المختلفة للوقوف على سر تصميم هذه العيون، وكشفه للناس علميا، ثم ستبادر إلى استدامتها بصيانتها، وإعادتها إلى سابق عهدها، والعمل على أن تكون وجهة سياحية من وجهات وطننا الغالي الأثيث بمعالم الحضارات.

ahmad_helali@