محمد الأحمدي

كيف تكون الأكاذيب ناجحة؟

الثلاثاء - 12 أكتوبر 2021

Tue - 12 Oct 2021

كتبت الأسبوع الماضي أن أزمة الوقود البريطانية أزمة تلاعبت فيها الحكومة بالمجتمع البريطاني لتحقق من خلالها أهدافا مختلفة، منها ما يتعلق بمؤتمر المناخ القادم، ومنها ما يتعلق بإثارة الرأي العام حول إعادة التفكير في متطلبات القيادة والتوظيف وتوجيه العمالة البريطانية لسد الفجوة التي أحدثها الخروج من الاتحاد الأوروبي، سواء في النقل أو التشغيل.

وما أن أعلنت الحكومة انتهاء أزمة الوقود، حتى نشرت صحيفة الجارديان أن سببها رغبة الحكومة في التحول نحو الطاقة النظيفة.

لكن على العموم، التحول نحو الطاقة البديلة أمر حتمي قادم في المستقبل، وأيديولوجيته تغلغلت في جميع المؤسسات الأوروبية، والعالمية، حتى بات يظهر كأولوية قصوى في خطط الجامعات البريطانية للعقدين القادمين. أعلنت جامعة إكستر البريطانية استراتيجيتها 2030 الأسبوع الماضي ويتربع على أولوياتها مبدأ قيادة العمل الهادف نحو القضايا المناخية والأزمات البيئية.

ولكن الأمر الذي يتضح عند قراءة الأجندات العامة للسياسة الديمقراطية البريطانية على وجه التحديد؛ فإنها تحاول أن تظهر في بعض الأحيان بمظهر يوحي للمجتمع بأنها ذات قوة مركزية في توفير الخدمات له؛ والعمل من خلال خلق الأزمات المختلفة التي تجعل المجتمع المدني يضطرب، ويشعر بالذعر أحيانا لأجل أن تجد لنفسها المبرر الواقعي لاتخاذ القرار، أو التأثير على الجمهور بأن يمنحها القيادة المستقبلية في الانتخابات لتتصدى لتلك الأمور السيئة المطروحة على الساحة.

ولهذا هيمن حزب المحافظين على السلطة في بريطانيا لأكثر من عقد من الزمن، وربما يستمر لأنه بدأ يغازل عواطف الأقليات كحياة السود بطرحه على لسان وزير التعليم اليوم بأن نسبة مدراء المدارس من النساء السود دون المأمول، بنسبة تقل عن 0.2%.

اليوم يطرح المعارضون لسياسة رئيس الوزراء بوريس جونسون بعد خطابه في مؤتمر حزب المحافظين سؤالا مضحكا مفاده كيف لقصص وأكاذيب غير ممكنة التطبيق أن تكون ناجحة للغاية في إقناع الناخبين لانتخاب حزبه طيلة هذه الفترة.

وأعتقد برؤية غير تخصصية في هذا الشأن؛ وإنما نابعة من متابعتي للغة الخطاب السياسي في النقاشات البرلمانية البريطانية، والجدل المستمر للحزبين المهيمنين على الجدل السياسي البريطاني، أن الأحزاب المختلفة كحزب العمال وغيره في بريطانيا تحاول أن تغمر نفسها من خلال اللغة الأكاديمية، والإحصاءات والنقاشات الجدلية النقدية، بينما يقابلهم المحافظون بلغة تميل إلى العاطفة، وملامسة الوجدان الإنساني، وفي الحقيقة عادة تتغلب العاطفة على العقل لدى الجماهير المثارة، ولكم في خطاب جونسون الأخير الدليل حينما خاطب العواطف قبل العقول في ظل أزمة الوقود، وقلة المنتجات الغذائية، وارتفاع أسعار الغاز مع بداية موسم الشتاء والخوف من انقطاع الكهرباء، الذي يستورد من الاتحاد الأوروبي كبلجيكا، وفرنسا، والنرويج، وهولندا بقوله: بأن هذا جزء من الخطة، حيث إننا ننتقل من نموذج اقتصادي قائم على الهجرة المتزايدة، والأجور المتدنية إلى نظام اقتصادي قائم على الكفاءة والإنتاجية والأجور المرتفعة. لكن حقيقة الواقع يقول غير ذلك، فالأسر تعاني من سلب الدعم الأسبوعي، وطوابير السيارات تسد الشوارع في محطات الخدمات، وحتى أعضاء البرلمان يشتكون بأن مخصصاتهم المالية غير كافية للحياة المستقبلية، حيث مخصصاتهم أقل من مخصصات موظفي القطاع الصحي.

ثم تستمر لغة التخويف والتلاعب بعواطف الجماهير، واختلاق التهديدات على هوية وحياة المجتمع، التي تعتبر فزاعة للمجتمعات الديمقراطية لتمنح أصواتها لمن يبرز كقوة قادرة على حماية ذلك المجتمع، أو تقبل مبرراته التي يقدمها حتى تصبح حديث العامة من الناس. طالما تكرر على مسامع المجتمع البريطاني من خلال هالته الإعلامية الضخمة، وأجنداته المختلفة حتى أن وصل إلى اتحادات الطلبة في الجامعات التي حضرت أحد مؤتمراتها، والتي تنادي بالخروج من الاتحاد الأوروبي بدعوى فقدان الوظائف، وارتفاع البطالة البريطانية، والخوف على هوية المجتمع ووحدته التي لا يوجد لها ثوابت راسخة ومركزية تحافظ عليها، والخشية من عدم الحصول على مقعد دراسي للأطفال في المدارس المدعومة من الحكومة، والتحدث عن قوائم الانتظار في النظام الصحي، كلها وغيرها تلعب دورا إيجابيا في توجيه العاطفة نحو اتخاذ أي قرار لصالح حلول تلك الأزمات.

الشائع في الديمقراطية البريطانية أنها تثير القضايا التي تستطيع من خلالها جلب العواطف، وتحولها إلى قوة سياسية واقعية، لكي تتعامل مع الواقع المشاهد، وتحاول أن تعالج الأزمة بما يحقق مصالح القوة القادرة على التصدي لتلك الأزمات، وبالتالي يفوز الحزب الذي يظهر بمظهر القدرة على تقديم الحلول للأزمات المتاحة على الساحة؛ مستخدمة عواطف الناس قبل عقولهم، وإن توافقت العواطف مع العقول، فسيحقق التأثير بكفاءة كمحرك أساسي لأي فئة من فئات المجتمع، وهذا يتطلب إثارة عالية ومستمرة لأسوأ القضايا، وحفز الغرائز البشرية نحو تحقيق رغبات الأغلبية.