غسان بن محمد عسيلان

صناعة النهضة بين الدين والحداثة!!

الاثنين - 09 أغسطس 2021

Mon - 09 Aug 2021

منذ ما يزيد على قرنين من الزمان وأمتنا العربية والإسلامية ترزح تحت صراع بين ثنائية: (الأصالة والمعاصرة)، فبينما ينادي قطاع عريض من أمتنا بضرورة الحفاظ على الهوية والأصالة والعراقة والتميز الحضاري، ينادي الحداثيون العرب بالقطيعة مع الماضي بميراثه وتراثه، ويرفعون شعار المعاصرة والحداثة للحاق بركب النهضة والحضارة الحديثة!

وقد نشأ مفهوم (الحداثة) في الغرب، وهو - كما يقول المفكر العربي الدكتور عبدالوهاب المسيري - مشروع غربي بامتياز استهدف قطع المجتمع الأوروبي عن جذوره القائمة على الدين والأعراف والتقاليد التي كانت سائدة في القرون الوسطى، وبناء أسس جديدة لإحياء أوروبا وإدخالها التاريخ من جديد بعد قرون من الظلام الدامس فيها بسبب الاستبداد الكنسي الذي يدعي الاستناد إلى حق إلهي!! وتمّ ذلك حين هيمن الفكر العلماني الأوروبي الحديث على مختلف المجالات، سواء في العلوم الطبيعة أم الاجتماعية.

وفي الحقيقة فإن الدين والعلم في مفهوم ووجدان الإنسان الغربي أمران متضادان ومتعارضان، فنتيجة لهيمنة الكنيسة لقرون على العقل الأوروبي أصبح هناك (العلم في مقابل الدين)، وترى العلمانية الغربية أن الإنسان غني عن القيم الإلهية، والأخلاقية، والمعنوية، والفضائل الدينية، وتعاليم الوحي، وأن صياغة الوجدان الإنساني وتنظيم السلوك البشري ينبغي أن يتما عبر توجيه مجموعة من القواعد التي تقوم على المعرفة العقلانية والتجربة البشرية، لا على الدين والأمور الغيبية!

وهناك مجموعة من الأسباب والعوامل المتداخلة أدت إلى ظهور العلمانية والحداثة في الغرب النصراني، منها عوامل: دينية، وفكرية، ونفسية، وتاريخية، وهي مسوغات تختص بالعالم الغربي، ولا تنطبق على العالم العربي والإسلامي؛ لأن المضمون الغربي لمفهوم العلمانية والحداثة لا ينطبق على كل السياقات الدينية؛ وإنما على دين محدد ضمن جملة من الأسباب والعوامل والمتغيرات المتشابكة التي أنتجت مفهوم العلمانية وروجت لظهوره.

وعلى النقيض من ذلك تقول الباحثة الإيطالية لورافيشيا فاغليري: «إن الناس بحاجة إلى دين يتفق وحاجاتهم ومصالحهم الدنيوية، ولا يكون قاصرا فقط على إرضاء وجدانهم وإشباع مشاعرهم وأحاسيسهم الروحية وحسب، ويريدون أن يكون هذا الدين وسيلة لأمنهم وطمأنينتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وليس هناك دين تتوفر فيه هذه المزايا سوى الإسلام؛ إذ إنه ليس مجرد دين فحسب، بل هو رؤية متكاملة للحياة، إنه يُعمِل التفكير الصائب، والعمل الصالح، والكلام الصادق، ولهذه الأسباب يتخذ سبيله إلى عقل الإنسان وقلبه دون أدنى عسر».

ويلغي التحرر العلماني دور الدين في المجتمع، وإن كان ذلك يناسب بعض الأديان إلا أنه لا يتفق مع دين الإسلام؛ لأن سياقات الدنيا والآخرة في المنظور الإسلامي سياقات متواصلة، فالإسلام ينظر بشمول وتوازن لمختلف جوانب الحياة الإنسانية: مادية ومعنوية، فردية واجتماعية، لكن الأديان الأخرى لا تفعل ذلك، ولا مفر من الصدام بين الدين والعلم، ومن هنا تم شطر الحياة والإنسان إلى شطرين: شطر لله وشطر لقيصر!

ويرفض الإسلام هذا التشظي والانقسام، ويرى أن الحياة وحدة واحدة لا تتجزأ، كما يرى الإنسان كيانا واحدا لا يتقسَّم؛ لأن الله عز وجل هو الإله الخالق، إله واحد لا شريك له، وهو سبحانه وتعالى رب الإنسان بل رب الحياة كلها، فلا يقبل قيصرَ شريكا له؛ فلله ما في السماوات وما في الأرض، وهذا يعني أنه لا يجوز أن يستولي أحد غير الله على جزء من الحياة، ويوجهها، بعيدا عن منهج الله تعالى وهداه.

فكما يجد الإنسان في الإسلام ما يلبي رغبته الوجدانية، ويشبع أشواقه الروحية عن طريق الإيمان بالله تعالى والتعبد له بالصوم والصلاة والزكاة والحج، كذلك يجد فيه نظاما من القيم الأخلاقية والشرائع المدنية التي تعطي أجوبة مفصلة عما يعترضه من مشكلات في المعاملات اليومية.

إن الإسلام لا يعيق البناء والتطور وصناعة النهضة؛ لأنه لا يعرف الكهانة والوساطة، ولا توجد فيه طبقة كهنوتية تحتكر الدين وتتحكم في الضمائر، وتغلق على الناس باب عبادة الله إلا عن طريقها كما في النصرانية، حيث يصدر الكهنة وحدهم قرارات الحرمان، أو صكوك الغفران!

إن الناس في الإسلام سواء، وأكرمهم عند الله أتقاهم، ولا يحتاج المسلم إلى واسطة بينه وبين ربه عز وجل، بل يؤمن المسلم أن الله تعالى أقرب إليه من حبل الوريد، وعلماء الدين في الإسلام ليسوا إلا خبراء في اختصاصهم، ويرجع المسلم إليهم كما يرجع إلى كل ذي علم في علمه (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون).

إن تطبيق (الحداثة والعلمانية الغربية) بين العرب والمسلمين لن ينفعهم ولن يساهم في صناعة النهضة، بل سيؤدي إلى ذوبان هويتهم وتحللها وضياعها، ولن ينفعهم بعد الله تعالى سوى الحفاظ على عقيدتهم وتمسكهم بهويتهم، والأخذ بأسباب النهوض والتطور، وفي مقدمة ذلك الاهتمام بالعلم وأساليب البحث العلمي!

GhassanOsailan@