علي المطوع

مستشفى عسير.. صور وعبر وذكريات

الاحد - 01 أغسطس 2021

Sun - 01 Aug 2021

خمسة عشر عاما قضيتها موظفا في هذا الصرح الطبي الشامخ، بشموخ مكانه وزمانه وشخصيات من شاركتهم العمل فيه، خمسة عشر عاما كانت مليئة بالصور الإنسانية العجيبة والغريبة، فمن المرض إلى الشفاء إلى صور العجز والشقاء التي ترافق رحلة هذا المريض وشاهدها الممارس الصحي.

مستشفى عسير لم يكن بالنسبة لي مجرد مصحة علاجية أو مكان خاص بالاستشفاء والاعتناء بذوي الحاجات ممن داهمهم العجز والمرض، هذا المستشفى كان وما زال جامعة إنسانية عريقة كون الإنسان يتعلم فيها معنى أبعاد الصحة والمرض، والعسر واليسر، وكل صور الحياة الإنسانية التي تكون في هذا المكان لتتفاعل وتنتج تلك الصور التي يقتاتها الناس مشاهد وعبرا وصورا مشرفة للتضحية والوفاء، ربما تكون بعض هذه الصور شعورا بالذنب لأمر خرج عن نطاق السيطرة أفضى إلى حالة مأساوية مكتوبة آذنت برحيل إنسان أو عجزه.

في عام 2006، تم تحسين وضعي الوظيفي لأكون في هذا المستشفى، كانت الصور الأولى التي ما زالت في ذهني، هي كثرة العاملين وكثرة المرضى، وضغط العمل الذي يجعل الممارس الصحي يشعر بشيء من الإرهاق والتعب قياسا بمن يعمل في أماكن صحية أخرى،

كان الجميع في المختبر - مكان عملي - كخلية النحل التي لا تهدأ وكانت العينات تنصب صبا على جميع الأقسام.

كان بصحبتنا كوادر وطنية ووافدة، على مستوى عال من المهنية والاحترافية في كل شيء، وكان وجودهم يعد ثراء للممارس وللمكان كونهم يمتلكون خبرات فنية كبيرة تتجاوز تجربتنا كشباب صغار في ذلك الحين، كان هؤلاء الوافدون يدهشهم حجم الإمكانات التي توفرها الدولة في هذه المستشفيات، وكنت أتعمد سؤالهم عن الوضع في بلادهم فكانوا على الفور يغبطوننا على هذا الكرم والرعاية التي توليها الدولة للمواطن وصحته.

تعلمت من هؤلاء معنى أن تكون ممارسا صحيا محترفا تعي ما تقوم به من أدوار فنية وما يفترض أن تمارسه من أعمال، ورسخ في ذهني ريادة بلدنا في تحقيق رفاه صحي للمواطن، وازداد يقيني يوما بعد يوم أن القصور الحاصل في الخدمات الصحية يكون أساسه في الغالب ضعف الإدارة في التعاطي مع هذه الإمكانات الكبيرة وعدم استغلالها الاستغلال الأمثل والأكمل لخدمة المريض والوصول بالخدمات إلى ذلك المستوى المأمول عند المواطن والمسؤول.

تعلمت في مستشفى عسير أن الزمن يدور وأن مشاهد القوة والتمكين التي نراها لأناس خارج هذا المستشفى وداخله، سرعان ما تنقلب رأسا على عقب، لتصبح شيئا من الماضي، وأن الصحة ماهي إلا إرهاص قادم للمرض، وأن الشباب مرحلة ما قبل الكهولة والعجز، وأن زوال العافية ماهو إلا نهاية لكل مشاهد الكمال الإنساني التي تنسينا أصلا من أصول الحياة في كونها تكمن بين مد الزيادة وجزر النقص.

خمسة عشر عاما كانت تجربة ثرية لفهم وإدراك طبيعة العمل في مثل هذا المرفق الصحي، الذي تعلمت فيه أن تجويد العمل ضرورة وأن اختيار القيادات الرزينة والرصينة مهم جدا لتسيير أعمال هذه المرافق، ودفعها لتكون في مستوى تطلعات الناس وآمالهم، وأن خدمة

الناس تظل أفضل وسيلة للبقاء في دوائر الاهتمام وشواهد وأراشيف الذكريات الجميلة.

اليوم أودع (مضطرا) هذا المستشفى، أودع شيئا من عمري قضيته بين أقسامه، أودع كوادر صحية كانت وما زالت ملتزمة بمعاني الوفاء للوطن، أودع صورا راسخة ومشرقة لمديرين أفذاذ، أداروا هذا المستشفى بكل جدارة واحترام، ذهبوا وبقي عبق ذكرهم وذكراهم، كانوا وطنيين مخلصين، الجميع بمقاييسهم سواسية لا فرق بين هذا ولا ذاك، كانوا على مستوى المسؤولية حضورا وانضباطا وقدرة محسنة وقدوة حسنة، تعلمنا منهم الكثير وما زلنا نذكر لهم الكثير، لأنهم سطروا أروع الإنجازات وأدقها كونهم أداروا المستشفى بعقلية المسؤول النظيف النزيه، الذي يعي حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه، فكانوا قريبين من الجميع محسوبين على التجربة والوطن والمواطن، لم يكونوا عنصريين ولا متسلطين ولا متسلطنين، كانوا أسوياء في الرضا والغضب، ونزاهتهم واضحة جلية لم يعكر صفوها مخالفات مالية أو إدارية من هنا أو هناك تصادر حقهم في البقاء صورا ناصعة يفخر بها الوطن ويحمد صنيعها المواطن.

للتاريخ وللتجربة وللعاملين أقول لهم وداعا وإلى لقاء قريب نحتفل فيه بمنجز صحي جديد، على ضفافه نكون ويكون الوطن شامخا بقيادته وشرفائه وسواعد أبنائه الراسخين في التجربة الصحية نزاهة ونظافة وسيرة ومسيرة.

alaseery2@