عبدالحليم البراك

خيانة المعنى!

الاثنين - 17 مايو 2021

Mon - 17 May 2021

أبرز مثال تاريخي لخيانة المعنى يمكن تسجيله كوثيقة عربية؛ هي ما اصطلح عليه بأن «أعذب الشعر أكذبه»، إذ يتم خيانة المعنى تماما بتقرير عذوبة الشعر بالكذب، وأنه الأجمل، وكأنه الضوء الأخضر للمبالغة في الوصف اللغوي على حساب المعنى.ثم تلا ذلك البلاغة بأساليبها المتنوعة لتقدم أو تبرر خيانة أخرى للمعنى عن طريق المبالغة من جهة أو التشبيه والاستعارات من جهة أخرى، فهي ربما قالت عن الرجل بأنه أسد لأنه شجاع، وبافتراض شجاعته، فإننا نقرر ونسوغ خيانة المعنى هنا، عن طريق تشبيه الإنسان بالأسد، لأنه (كحقيقة) ليس أسدا، وإن كان المعنى هنا مكشوفا للغاية، لدرجة لا يشعر الإنسان بخيانة للمعنى بمعناه الحرفي، فإنه مسوغ لتمرير خيانة المعنى إذا استطاع الإنسان خلق اللبس بين الحقيقة والكلام أو بين الواقع واللغة.

والسؤال الذي قد يطرحه عليك أحد الأصدقاء، هل تريد أن تذهب معي أو تذهب مع فلان، فقد حصر خياراتك في الشخص، ولم يترك لك الخيار في «هل تريد أن تذهب أم لا؟!» فخيانة المعنى هنا بخروجك من سياق الاختيار أصلا إلى سياق التخيير المحدد، وهذا ما يحدث في الدعايات المؤطرة، التي لا تمنحك خيارا تفترضه لنفسك، وهذا يقود لخيانة المغالطات المنطقية (اللغوية) للمعنى فهي ليست إلا وسيلة للتلاعب بالحوار من أجل القفز على الحقيقة/ المعنى نحو شيء آخر مختلف للغاية أثناء الجدل، وقدرتها على تحوير/ عبث / تلاعب بالمعنى!.

وقد تكون خيانة المعنى بطريقة تجارية، والفكرة للتأمل فقط، عندما أعلنت الأجهزة الرقابية على الأطعمة بضرورة أن تفصح الشركات عن « القشطة الطبيعية أو عن شبيه القشطة» عن الجبن الحقيقي و«شبيه الجبن» والسؤال المطروح سابقا هل تمت خيانة المعنى في السنوات السابقة بفعل «ملصق» على علبة، الأمر لم يتوقف عند نقد الماضي، فالمسألة قائمة، حين تضع الشركة اسمها والتصميم دون أن تضع الاسم التجاري للمنتج، لأن الصورة النمطية القديمة في ذهنك مستقرة على النوعية، فأنت لا ترى إلا اسم الشركة المنتجة فقط ورسخ في ذهنك (قشطة وجبن)، وعند التدقيق سترى أن كلمة «شبيه القشطة» و«شبيه الجبن» صغيرة جدا بحجم الأثر الذي تتركه خطوات نملة على صفحة الرمل!.

وفلسفيا، جزء من خيانة المعنى، وصف ما لا يمكن معرفة ماهيته، دون الإفصاح عن العجز، فنقول عن الكهرباء إنها سيل من الالكترون، بينما لا نعرف الالكترون إلا ما نعرف أثره، ولو عرفناه فيبقى هو رؤيتنا له وليس هو كما هو في حقيقته لا في حركته ولا في ذاته!

ولعل من خيانة المعنى هو وقع خطواتنا اليومية في علاقاتنا، فالصداقة شيء، وما يحدث من تغييرات على الأصدقاء هو خيانة لمعنى الصداقة أو قبل بعبارة أخرى «ما صنعناه نحن عن صورة معنى الصداقة في أذهاننا» ومن زاوية أخرى، يبقى تعريف الصداقة خيانة للمعنى بين شخصين، فكيف نتحدث عن شيء واحد لكنه يملك تعريفين مستقلين عن بعضها البعض، ويخون الإنسان المعنى بوصف حدث واحد، وفي هذا السياق نذكر قصة قصيرة لعدة أشخاص يصفون حدثا واحدا، فالحدث لم يتغير ولكن تغيرت اللغة، فتغير المعنى، وبصياغة أخرى تغير الإنسان فتغير المعنى، وبطريقة أخرى تغير الهدف فتغير المعنى حتى مات المعنى ولم يبق له وفيه من المعنى شيء، والأمر لا يتوقف عند اللغة التي ليست إلا معبرا عن شيء في القصة أعلاه، بل هو السلوك النفسي الفاضح الذي خان الحقيقة بسبب رغباته النفسية والشخصية ومصالحه الذاتية!

وربما نصل إلى نتيجة غريبة بعد نهاية المقال، أننا سنختلف عن هذه الأمثلة؛ هل تمثل خيانة للمعنى فعلا أم إن هناك مبررا آخر غير الخيانة (هذا المصطلح العنيف) لتبرر لنا الاختلاف بين الوصف والمعنى؟!

@Halemalbaarrak