دلال عمر العباسي

ابتسامة ماسح السيارات

الاثنين - 26 أبريل 2021

Mon - 26 Apr 2021

في يوم كنت عائدة من عملي، أخدت الطريق المعتاد الذي فيه إشارة طويلة على جسر مربع. في أيام الدوام الرسمي وفي ساعة الذروة عادة الإشارة تفتح وتقفل مرتين أو ثلاثا إلى أن أستطيع النزول من ذلك الجسر المكتظ بالسيارات. عادة تصادفني أشكال كثيرة من طالبي المال والمساعدة على ذلك الجسر، البعض رجال برفقة أطفال، والبعض بعاهات لكسب استعطاف السائقين، والبعض بائعون للورد أو الفل، أو كمامات في حال نسي السائق وجودها في سيارته، وبعضهم شباب ببخاخات ومماسح بحجم النافذة يوفرون خدمة تنظيف سريعة للنافذة الأمامية للسيارة.

عادة وأنا في تلك الحبسة عند الإشارة لا أستخدم الخدمات المتوفرة لي سواء من ورد أو ماء أو كمامات أو خدمة تنظيف بسرعة البرق، ولكن في ذلك اليوم، وأنا عند الإشارة أستمع للراديو المعتاد، بعد يوم مرهق وشاق في العمل، نفس حالتي النفسية والفكرية المعتادة، يوم آخر انتهى في العمل ولم أنجز ما كنت أنوي إنجازه، غارقة في تفكيري كيف يمكن أن أستغل الساعات المتبقية في يومي لإنجاز بعض من العمل المتراكم..

ثم تأتي معدتي الجائعة فتذكرني بالسؤال «يا ترى ما الطبق الذي اختارته لنا عاملة المنزل؛ ليكون غداءنا لأشعر بتأنيب الضمير السريع كيف أني لا أعلم حتى ما هو الطعام الموجود في بيتي لعائلتي. السلسلة المعتادة من تأنيب الضمير للمرأة العاملة التي هي زوجة وأم.

في خضم هذه الأفكار أرفع عيني لأرى المنظر المتعارف من شباب بين السيارات بالبخاخات والمماسح يطلبون من السائقين فرصة لتنظيف النافذة مقابل بعض المال. ولكن هذا اليوم حدث شيء مختلف.

فأحد الشباب رأيته من بعيد يمشي بين السيارات حاملا البخاخ والممسحة ولكن معه شيء آخر ميزه عن الباقيين، شيء لفت انتباهي من بعيد، فقد كان حاملا ابتسامة عريضة ظاهرة حتى خلف الكمامة. ابتسامته جذبت انتباهي وصرت أراقبه وهو يبتسم لجميع السائقين سواء قبلوا خدمته أم لا. رأيت نفسي لا إراديا أنظر في نافذتي لأرى إن كانت تحتاج بعض التنظيف..

وفجأة لأول مرة في حياتي أشاور للشاب بإيماءة من كرسي القيادة أطلب منه أن ينظف نافذتي. أتى الشاب صاحب الابتسامة وبسرعة قام بعمله في ثوان وفتحت الإشارة، قمت بسرعة مرتبكة أبحث عن أي ريالات متناثرة في السيارة لأعطيها للشاب، فتحت النافذة أعطيته الريالات القليلة وانطلقت في حال سبيلي.

عند نزولي من ذلك الجسر، استوعبت وأنا بمفردي في سيارتي إني كنت مبتسمة، وهذا جعلني أفكر ما الذي حدث، ما سر ذلك الشاب الذي جعلني ليس فقط أغير نظرتي لخدمته وأقرر أن استخدمها بل أيضا غير حالتي من شخص طاقته مستنفذة إلى شخص مبتسم. هذا الشاب صاحب الممسحة المبتسم في بضع ثوان أعطاني من الدروس الحياتية الكثير وسأحاول أن ألخص لكم بعضا منها:

درس في الصدقة:

قد يكون من الظاهر أنني أنا من تصدق على هذا الشاب الذي هو غالبا عاطل عن العمل وليس له أوراق رسمية، ولكن عندما تأملت في الموقف تيقنت أن الشاب المبتسم تصدق علي قبل أن أتصدق عليه. تصدق علي بابتسامته، فالابتسامة هنا أتت من شخص يقف تحت الشمس والحر لساعات طالبا فرصة من الناس أن يستخدموا خدمته مقابل مال بسيط.

أتت هذه الابتسامة من شاب كادح، غالبا ولد في ظروف صعبة بعيد عن أحبابه وعائلته، ولكن مع كل هذه الظروف، كنت أنا من في السيارة المكيفة القادمة من عملي ذا المنصب والذاهبة إلى بيتي وعائلتي محتاجة أن أرى هذه الابتسامة. هذه الابتسامة ذكرتني أن الدنيا ما زالت بخير، أن العمل المتراكم على كاهلي ليس آخر العالم.

هذه الابتسامة أجبرتني أن أبتسم أنا أيضا وتلقائيا أصبحت الحياة أبسط وأقل تعقيدا. هو تصدق علي بما كنت أحتاجه في هذه اللحظة وهي الابتسامة، تصدق علي بجرعة من الامتنان وأنا تصدقت عليه أو بالأصح قبلت خدمته بالقليل من المال. فجزاه الله عني خير الجزاء. (ليس معنى أننا ليس لدينا الكثير أن الأشخاص لا يحتاجوننا)

درس في التسويق:

الشاب ماسح السيارات أعطاني درسا في التسويق. استخدم أداة متوفرة للجميع، ولكنها غير مستخدمة في مهنته، قرر أن يغير الطريقة؛ لأنه غير النظرة فبدل الطريقة المعتادة للتسويق وهي استخدام أدوات تعبر عن البؤس للعمل على استفزاز مشاعر الرحمة عند الفئة المستهدفة وقرر أن يغير ويستخدم أداة تعبر عن السعادة والرضا وهي الابتسامة فيستفز مشاعر الامتنان والأمل.

هذا الشاب قام بخطوة تسويقية حتى وإن لم يكن مدركها، فهو تعرف على فئته المستهدفة، شعر بهم وتعرف على احتياجاتهم. الجميع في هذه المرحلة لا يحتاجون الشعور بالبؤس، فالجميع يشعر بالخوف، وعدم الرضا وجزء كبير من الاكتئاب فلا نريد أن نرى من يؤكد لنا أن الدنيا غير عادلة ومليئة بالفوضى، ولكن هذا الشاب عرف احتياجنا وهو الأمل فجاءت الابتسامة حتى من غريب في إشارة لمدة ثوان لتجذبنا.

عرف كيف يكسب زبائنه بأداة موجودة ومتوفرة لديه. هذا جعلني أفكر عندما نصرف آلافا، وأحيانا ملايين الريالات على أدوات تسويقية من غير النظر عن قرب ماذا متوفر لدينا في الأساس، ما هي إمكاناتنا الحقيقية التي يمكن أن نوفرها للزبون بأقل تكلفة، ولكن تأتي في محلها. (في كثير من الحالات نحتاج نعطي لنأخذ لا نفكر في الأخذ دائما)

درس في معرفة الذات: الشاب المبتسم أعطانا درسا ألا نستقل بإمكاناتنا وبما أعطانا الله لنا من قدرات. هل كان يعلم الشاب أن ابتسامته التي رأيتها في ثوان سيبقى أثرها معي حتى بعد أسابيع. أو أني سوف أكتب مقالة عن الإلهام والدروس التي منحتني إياها تلك الابتسامة؟. هل كان يعلم مدى احتياجي لتلك الابتسامة في تلك اللحظة؟ أنا نفسي لم أكن أعلم.

بالتأكيد إن أثر هذه الابتسامة لم يكن متساويا لجميع السائقين الموجودين في الإشارة، بل ممكن منهم من كان مشغولا بهاتفه أو في أفكاره ولم ير الابتسامة أصلا، وبعضهم رأوها ولم تؤثر فيهم، ولكن يوجد شخص كانت هذه الابتسامة بالنسبة له ما يحتاجه في تلك اللحظة.

دائما ما أفكر أننا نحتاج أن نعطي حسب الاحتياج ولكن بعض الأحيان إعطاء القليل حتى وإن ظهر لنا عدم احتياج الشخص ولكن نعطي في كل الأحوال. فبعض الأحيان لا نعطي هدية بسيطة لصاحب الأموال الطائلة؛ لأننا نعتقد في أنفسنا أنه ليس بالحاجة إليها وأن لديه كل شيء، أو لا نمدح البروفيسور على تدريسه، لأننا نقول أكيد هو يعلم أنه ممتاز ولولا ذلك ما وصل أعلى منصب، ولا نعطي النصيحة أو المعلومة ونقول أكيد هو يعرف. ما نحتاجه هو العطاء بغض النظر عن مدى الاحتياج، ففي كثير من الأحيان نستوعب الاحتياج بعد ما يقدم لنا العطاء.

فلا نستقل بأنفسنا وما لدينا أن نعطي، ليس بالضرورة أن نكون حكماء أو علماء أو مربيات أو ناجحين فأحيانا الناس تحتاج منا فقط ابتسامة أو كلمة صادقة قد تصنع يومنا (لا تستقل بما لديك من عطاء).

درس اجتماعي:

كبرنا نعتقد أن الأقل يحتاج الأكثر، فالأقل علما يحتاج أن يتعلم من الأكثر علما، والأقل منصبا يحتاج إلى الأعلى منصبا، والأقل مالا يحتاج إلى الأكثر مالا، والصغير يحتاج الكبير، والضعيف يحتاج القوي، والمريض يحتاج السليم، وهكذا. الشاب ماسح السيارات جعلني أتأمل تلك التركيبة الاجتماعية.

وبدأت أتأمل عن المرات العديدة التي ذهبت إلى ابني الصغير أقول له أحتاج حضنا مع أنني أنا الأم ذات الحضن الدافئ، كم مرة تعلمت من طالباتي وأنا الدكتورة التي لديها شهادات من جامعة عالمية، كم مرة احتاجت أرواحنا أن نكون مع من هم أقل مننا حظا في هذه الدنيا. هذه التركيبة الاجتماعية المبنية على الرأسمالية في كل شيء، رأسمالية المال وعدد الشهادات وكبر المنازل والمناصب جعلتنا نعتقد أنه كلما ذهبنا إلى أعلى قل احتياجنا للناس وزاد احتياجهم لنا فذلك يشعرنا بأهميتنا في هذه الحياة.

وهذه كذبة باعوها لنا؛ ليجعلونا نركض في حياتنا لنصل إلى أعلى وأعلى ونفقد الإحساس بأنفسنا؛ لأننا ببساطة نحتاج نفسيا لكل من حولنا من مخلوقات رب العالمين سواء من أشخاص أقل منا أو أعلى أو حيوانات أو طبيعة. نعم أنا في ذلك اليوم فوق ذلك الجسر كنت أحتاج تلك الابتسامة من شخص غريب منهك من الوقوف في الإشارة وهذا طبيعي؛ لأننا جميعا بشر.

أخيرا أريد أن أشكر ذلك الشاب الذي غالبا لم أره مرة أخرى في حياتي على قراره أن يبتسم في ذلك اليوم.

@dalalabbasi