ماجد السلمي

عالم متماثل.. تملؤه الفرص

الاحد - 17 يناير 2021

Sun - 17 Jan 2021

ساهمت العولمة في تنميط العالم، وجعلته متشابها في البني السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبشرية، وفتحت التفاعل الحر بين الناس، بصرف النظر عن الحدود الجغرافية، واختلاف التوقيت والثقافة، وأفسحت الطريق لعولمة المعلومات والأفكار والمفاهيم، وأزالت الحدود، وزادت من حجم التبادل التجاري والسلع والأموال، ووحدت أنماط المعيشة والسلوك الاجتماعي، وتوسعت اهتمامات الشعوب من المحلية إلى العالمية، وباتت «النحن والغير» على المحك.

ساهم انفجار المعلومات وتطور وسائل النقل والإعلام في نمو مستوى التفاعل الدولي بين الجماعات البشرية بشكل لم يسبق له مثيل. أصبح العالم فعلا قرية صغيرة، وتعاظمت السرعة الكونية، وزاد التشابه، وتزايدت أشكال الاتصال الكونية بشدة، وتعاظمت سرعتها، وظهرت الحكايات العالمية، والروايات العالمية، والأخبار العالمية، والمسابقات الرياضية الدولية.

ولكن هذا الشكل للعالم خلق فرصة عظيمة للدول ذات الرؤية الطموحة والمتطلعة للانخراط في صياغته، واستغلال نسقه الاجتماعي ذات الطابع العولمي، والقادرة على اقتناص الفرص في سباق التنافس العالمي، وحجز موقعها بين القوى الفاعلة على الخارطة الدولية، من خلال التفاعل مع المحيط الخارجي بإيجابية، والقدرة على ابتكار القيمة، وخلق عناصر التمايز، وصناعة أدوات الجذب والتفرد.

ويهيئ هذا النسق العالمي فرصة كبيرة لم يسبق لها مثيل. فرصة للدول التي تحسن استغلال قانون الحركة والمنافسة العالمية الحرة، كقوة دافعة لصناعة التميز والريادة، والاستثمار في التجديد والتفرد والملكية الفكرية، وصناعة مجتمعات رائدة قادرة على مخاطبة العقول والمخيلات، وجذب الشعور والمشاعر. وللدول التي تعيد ابتكار صورتها الذهنية Image دوما، وتغذيها بما يمنحها الحيوية والاستمرار والتجدد والفرادة، وتلك القادرة على صناعة شخصيتها، وتحديث صورتها النمطية stereotype، وابتكار نماذجها المميزة التي تحرك نزعات التقليد والإتباع العالمية. هذه الدول هي القادرة على إبراز تاريخها، وصناعة حاضرها، وصياغة مستقبلها، ووضع بصمتها مع الأمم الأخرى في دفع عجلة التاريخ، وهي القادرة على إحراز تقدمها الاجتماعي والاقتصادي، وتعزيز نموها ونفوذها، بغض النظر عن حجمها أو موقعها العالمي.

الشعوب حول العالم انطباعية، تقودهم الصورة النمطية في خياراتهم، وتحكمهم المشاعر العاطفية في الانسياق خلف الأشياء. والعالم كبير جدا، يشكله أكثر من 192 دولة، والأفراد ليس لديهم الوقت الكافي للبحث في تفاصيل ومميزات كل البلدان والأماكن والأفكار، ومن لا يمتلك الوقت لقراءة الكتاب يحكم عليه من العنوان.

الذهنية العالمية تبسط المشهد، وتقسم الدول حسب القوالب النمطية، والدول إما أنها هي التي صنعت قوالبها، أو أنها صنعت بشكل تلقائي. فالفرصة كبيرة لكل دولة بأن تصنع قالبها وصورتها النمطية التي تتمناها، وقيمتها المعنوية في عقول الشعوب، وبشكل مترابط وجذاب، باتجاه قيمة أساسية محددة brand essence وهو جوهر البراند، وإدارة سمعتها بشكل استراتيجي، لتحفزهم على التفكير والشعور بها على طريقتها. الدول التي صنعت صورتها الذهنية image استطاعت أن تلعب دورا أكبر على الساحة الدولية، وقادتها سمعتها لكسب السباقات، فمثلا تعرف فرنسا بأنها بلد الموضة والعطور، واليابان التكنولوجيا، وسويسرا الثراء والمؤسسات المالية المتقدمة والدقة. الصورة النمطية stereotype هي التي تخلق إطارات التفاعل ومساحات التأثير الدولية، وهي التي تصنع الفرص للدول صاحبة السمعة الإيجابية، ولذلك ازدادت أهمية بلد المنشأ Country of origin، وذلك لأهميتها المعنوية والعاطفية تجاه الدفع نحو الخيارات للمنتجات والبلدان ذات السمعة الإيجابية.

جمهورية أستونيا مثلا، بلد صغير، لا يتجاوز عدد سكانه المليونين نسمه، استقلت عن الاتحاد السوفيتي في عام 1991م، وواجهت في بداياتها بعد الاستقلال معضلة صناعة تموضعها الدولي positioning، خاصة أن البلد لا يمتلك الموارد المالية الكافية لبناء دولة قادرة. ولتجاوز هذا التحدي، تبنت الحكومة الأستونية سياسة مبتكرة، لصياغة تموضعها الإقليمي والعالمي، تقوم على فكرة بناء جميع الخدمات الحكومية بشكل رقمي، وذلك لجعل البيئة الأستونية أكثر كفاءة ودقة واستدامة وديناميكية.

مفهوم الخدمات الرقمية الذي اتبعته الحكومة الأستونية قائم على مبدأ تقليل حركة المواطنين، والاستهلاك الغير ضروري، وتجنب البيروقراطية. هذا المفهوم أصبح نموذجا رائدا يحتذى به في زمننا الحالي. شكلت أستونيا براندها Brand Estonia الفريد لتقدم أستونيا بشكل ملهم، من خلال الرسائل والقصص التي خلقتها للتعبير عنها بأنها مجتمع وبيئة أعمال رقمية من بين الأفضل حول العالم.

وروجت لها من خلال قوالب ورسائل متكررة في أشكال وأماكن متعددة، وسرد لقصص وروايات تحكي نفس القيمة، وصناعة مزيج فريد من السمات والخصائص التي تعطي دلالات مباشرة عن القيمة التنافسية التي يتمتع بها المجتمع الأستوني، الذي يتميز بالكفاءة والاحترافية في المجال التكنولوجي، وللبيئة المحلية ذات الأنظمة والتشريعات الجاذبة للعقول المميزة، ورؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية، والتي تصل بها إلى مرحلة أن براند أستونيا Brand Estonia هو الذي يقود المشاعر والسلوك تجاه أستونيا الدولة، ويعزز فكرة أنها مكان رائع للعيش والزيارة والعمل، وجاذب لرواد الأعمال والاستثمارات الأجنبية الرقمية التي تبحث عن الكفاءة البشرية الرقمية، وعززتها أيضا بإجراء عدد من الأنظمة والتشريعات والتسهيلات التي تخدم تموضعها الجديد، كالإقامة الرقمية، والجنسية الرقمية، والمناخ الضريبي التنافسي للشركات الناشئة.

أصبحت أستونيا سيليكون فالي أوروبا، وأول دولة رقمية في العالم تقدم خدماتها الحكومية بنسبة 99%، وفرضت نفسها كقطب من أقطاب التكنولوجيا الرقمية، وتمتلك عدد كبير من الشركات اليونيكورن الرقمية، واحتلت مركزا متقدما في مؤشرات إقليمية ودولية، كمؤشر التنمية البشرية التابع للأمم المتحدة الذي وصفها بأنها تعتبر «دولة متقدمة»، متجاوزة في ذلك عددا من الدول العريقة، وصنفت أيضا من قبل البنك الدولي بأنها «بلد ذو دخل مرتفع»، ومن صندوق النقد الدولي بأنها «اقتصاد متطور».

بريطانيا مثال للدول العريقة التي عرفت كيف تجدد هويتها، وتعيد صياغة تموضعها العالمي repositioning، بعد أن كان ينظر لها كبلد تاريخي تقليدي. قامت بريطانيا بصياغة حملة ترويجية «Great Britain» لإبراز كل ما هو جديد ومثير للدهشة في البلد، وخلق صورة ذهنية تبرز بريطانيا كبلد عصري متعدد الثقافات، بهدف تشجيع الناس حول العالم على التفكير والشعور بشكل مختلف تجاه المملكة المتحدة. وأيضا لإلهام العالم ودفعهم لزيارة بريطانيا والاستثمار والدراسة فيها، وهو ما خلق فرصة كبيرة للنمو الاقتصادي، وعزز من تنافسية مواردها البشرية والبيئة الاستثمارية والتعليمية.

نجحت الحملة نجاحا باهرا، وساهمت في تجديد الصورة الذهنية العالمية Image لبريطانيا. كما فازت الحملة بأكثر من 50 جائزة محلية ودولية نظرا للإبداع في الصياغة والتنفيذ، ووصفها عدد من المتخصصين والمراقبين بأنها الحملة الأنجح حول العالم.

«هولندا» نيذرلاندز هي الأخرى أعادت تحديث صورتها على المستوى العالمي، وذلك للانفكاك من سمعة دولية ظلت تلازمها بسبب التسمية التي لا تعبر عن الدولة، وإنما عن إقليم محدد. أرادت نيذرلاندز بأن تصنع براند جديد لها، وذلك في إطار استراتيجي من أجل إظهار ما لدى نيذرلاندز لتقدمه للعالم بشكل واضح ومترابط، من خلال تحديث صورتها الذهنية على الساحة الدولية. وكما قالت وزيرة تجارتها الخارجية والتعاون الإنمائي « أن الصورة الذهنية الإيجابية حول البلد سوف تؤثر بشكل إيجابي على صادرات البلاد، بالإضافة إلى جذبها للاستثمارات والمواهب».

العالم متماثل، يتساوى فيه الجميع في مقدار الفرص والمساحات والمناخات، التي تفسح المجال للأمم بأن تتقدم وتتطور، وتساهم في صناعة مستقبلها ومستقبل البشرية. وكما يقول توماس فريدمان «بأنه لم يعد هناك أناس على الهضبة وأناس يقبعون أسفل الجبل، هنالك تساوٍ في اقتناص الفرص، ولا يوجد مسافة تفصل بين الدول، وأن المنافسة محتملة من أي بقعة في العالم».

@Majed_Al_Sulami