ماجد السلمي

الدولة البراند.. تحول الصراعات من ساحات الحروب إلى التنافس على احتلال عقول الشعوب

الاثنين - 04 يناير 2021

Mon - 04 Jan 2021

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، قام نظام عالمي جديد يحكم البيئة الدولية، بمعايير جديدة، تمنع نشوب الحروب والنزاعات العالمية الكبرى المدمرة. النظام العالمي الجديد ينظم العلاقات بين الدول ووحدات المجتمع الدولي في إطار التفاعل السلمي، المحدود بالاتفاقيات والمعاهدات وبآليات وأدوات الدبلوماسية، في إطار القانون الدولي.

كانت النظرية الليبرالية هي التي تحكم طبيعة العلاقات الدولية المعاصرة، عن طريق بناء وتعظيم دور المؤسسات والمنظمات الدولية والإقليمية، وذلك لخلق مسارات سلمية للتفاعل بين وحدات المجتمع الدولي، من خلال تعزيز التعاون والتبادلية كقوة دافعة للسلام، بدلا من منطق القوة والصراع في العلاقات بين الدول، للمحافظة على السلم والأمن العالمي والتعاون الاقتصادي والاجتماعي الدولي. لكن أسباب الصراع لا تزال قائمة، ويؤكد على ديمومتها أصحاب النظرية الواقعية في العلاقات الدولية، باعتبار أن الأمن القومي وتوازن القوى هي العناصر الأساسية في تنافس الدول وصداماتها وتحالفاتها وحروبها. وكما قال kenneth Waltz كينيث والتز بأن الفوضوية هي السمة السائدة التي يقوم عليها النظام الدولي، ويقصد بها عدم وجود سلطة عليا داخل النظام، ولذلك فإن منطق الصراع والمنافسة هو الذي يحكم العلاقات بين الدول، وسيبقى الصراع والتنافس المحرك الأساسي لسلوك الدول، ولذلك ستظل الحروب مستمرة، ولكن بوسائل أخرى.

تطورت سلوكيات الدول إلى سلوكيات اقتصادية، وطغى عليها الطابع التنافسي، وامتلاك القيمة المضافة. كما تحول دور الدولة في هذا المناخ الدولي الجديد من مجرد حامية لبقع جغرافية محدودة إلى داعم ومحرك لقوى السوق، من خلال تبني سياسات اقتصادية مبنية على الرؤية الليبرالية وتوجهات السوق الحر وآلياته، وذلك لتعزيز قدراتها وإمكاناتها، للوصول إلى قدرة أكبر في اختراق الأسواق العالمية، ودعم اقتصادها وقدراتها التصديرية وتعزيز تنافسية مواردها البشرية في السوق العالمي.

ساهم النظام العالمي الجديد في تعميق الرغبة في التنافس بين الدول، وطغى السلوك التجاري على سياساتها، لتحكمها المعايير الحديثة الداعمة لتنافسيتها على المسرح العالمي. في هذا السياق، ظهر مفهوم جديد اتبعه عدد من الدول، وذلك لتطوير هويتها وصناعة صورتها الذهنية كأداة من أدوات التمييز والتنافس، باستخدام استراتيجيات وتقنيات التسويق التي تستخدمها الشركات في قطاع الأعمال، وهو مفهوم Nation Branding صناعة البراند للدول. ساهم هذا المفهوم في تطوير أداء الدول في سعيها لتحسين صورتها الذهنية وإعادة صياغة هويتها، وتقوية أدوات المنافسة وتوسيع دائرة النفوذ والتأثير، والحصول على مستوى علاقات وشراكات دولية أكبر، تعود بالنفع على الدول وتنميتها الاقتصادية والتجارية، وتعزيز نفوذها السياسي والدبلوماسي في القرارات والقضايا الدولية.

لاحظ المتخصصون والمراقبون أن الدول ذات الهويات المترابطة والواضحة والجاذبة، قادرة على لعب دور أكبر على الصعيد الدولي، والتفاعل بإيجابية أكثر مع العالم الخارجي، وأنها تحظى بنفوذ وتأثير أوسع على مستوى السياسات الدولية. لذلك اهتم عدد من الدول بصناعة صورتها الذهنية وإدارة هويتها بشكل استراتيجي، وذلك لتعزيز حضورها الدولي، ورواية قصتها بطريقتها، من مبدأ أن من لا يروي قصته، قد يأتي من يرويها عنه بطريقة قد لا تسعده.

تعددت وتنوعت تعريفات مفهوم صناعة البراند للدول بتعدد وجهات النظر المختلفة وخلفيات المهتمين، فهناك من المنظور التسويقي التجاري والاقتصادي والسياسي، وكل منظور من هذه المنظورات يحاول تعريف المفهوم استنادا إلى بعد أو مجموعة من الأبعاد يرى فيها جوهر هذا المفهوم، وتتقاطع هذه المنظورات في عدة أبعاد، لكنها في النهاية تعبر عن ذات المفهوم وتصف جوهره. عرف Keith Dinnie كيث ديني المفهوم من المنظور الاقتصادي بأنه مزيج فريد متعدد العناصر والأبعاد، يساهم في تمييز الدولة وعناصرها المبنية على أسس ثقافية خاصة به، وتشكل عناصر جذب للشعوب على المستوى الدولي، حيث إنه إذا تم تطبيقها بشكل جيد، فإن الصورة الذهنية سوف تنعكس على جميع منتجات وأصول الدولة، مما يجعلها الخيار المفضل لدى المستهلكين في الأسواق الدولية. كما عرفها Gold & Ward جولد أند وارد بأنها عملية توظيف استراتيجيات التسويق والدعاية للترويج لصورة ذهنية محددة لموقع جغرافي محدد، بغرض التنمية الاقتصادية.

ويرى الباحثون في المجال السياسي أن استراتيجية صناعة الصورة الذهنية للدولة وإدارة هويتها هي جهود حكومية منسقة من أجل تعزيز حضورها الدولي وتعزيز علاقاتها الخارجية، لتعظيم الفوائد الاقتصادية والسياسية. وفي ضوء ذلك ينظر Volcic & Andrejevic فولسيك أند أندرييفيتش إلى صناعة الصورة الذهنية للدول باستخدام استراتيجيات التسويق والبراندنج، بأنها أداة سياسية قوية، خاصة بالنسبة للدول الصغيرة الهامشية، التي تتطلع لوضع نفسها على الخارطة الدولية، وإعادة تموضع تواجدها على مسرح السياسات الدولية.

كما يرى أيضا المتخصصون في الحقل الثقافي أن المنتجات والأصول التي تسوقها الدول خارجيا، لا تخلو من القيم والأفكار والعادات والأيديولوجيات التي يعتنقها مواطنيها، الأمر الذي ينعكس على مشاعر الانجذاب أو النفور منها. لذلك فإنهم يرون أن صناعة البراند للدول تدخل في إطار الاستراتيجيات المتبعة في إعادة هندسة الأفكار والمشاعر والأيديولوجيا السلبية التي يعتنقها الشعوب، لوضعها في إطار عصري وجذاب، وإعادة ابتكار تقديم التاريخ والتراث بصورة عصرية تناسب أذواق المستهلكين عالميا.

صناعة البراند للدول مفهوم يعبر عن أنشطة وجهود الدولة لإدارة سمعتها، بهدف تشجيع الاستثمار والتجارة والتصدير وحتى العلاقات الدبلوماسية والسياسية الخارجية. وتسعى كثير من الدول التي ترغب في صناعة دور فعال لها على الساحة الدولية، في صناعة براند مميز لها، من خلال خلق صورة ذهنية إيجابية، تنعكس على مستوى بناء الثقة، وتخلق مناخا يقوم على الاحترام المتبادل مع الجمهور حول العالم، ويشجع الناس على الانجذاب نحو السياحة فيها، وعلى شراء منتجاتها، ودعم تنافسية صادراتها في اقتحام الأسواق العالمية، والتفاعل مع قيمها بإيجابية.

هو مجهود جماعي يقوم به عدد من القطاعات داخل الدولة، الحكومية وغير الحكومية، بهدف تشكيل صورة مرئية ومسموعة للكيانات السياسية والاقتصادية والبشرية، بهدف التأثير الإيجابي في عقول ومشاعر المتلقين المحليين والدوليين. كما يطبق هذا المفهوم من قبل بعض الدول التي تؤمن بأدبيات التسويق، في صناعة محتوى ترويجي، في وعاء من الرسائل البصرية والسمعية، بهدف إنشاء علاقة حب وولاء للدولة، لتكون قادرة على التميز والمنافسة.

@Majed_Al_Sulami