محي عبدالله القرني

ذاب الشوق من بركان الوجع

السبت - 26 ديسمبر 2020

Sat - 26 Dec 2020

ثعالب الماء تشبك أرجلها أثناء النوم للحفاظ على العائلة مخافة تيارات المياه التي قد تجرفها بعيدا وتشكل خطرا عليها. نستمد قوة العيش وطعم الحياة بإمعان النظر حولنا والاستغراق الفكري لكل نبض حياة في مدارنا، قبس الحكمة قد يأتي من نبتة عالقة بين فكي صخرة، وقناديل المعرفة قد تزورك من مسار نملة أو من مملكة نحلة، لأن الحياة تكامل ونحن جزء من كل.

التأمل داخل إطار الحياة الاجتماعية يرى بعين المشاعر مدى هشاشة العلاقات التي يئن عليها القلب، الأوجه المتحابة بالأمس غاب عنها الدفء العائلي وتخثر دم الألفة في أوردة الوصال، رياح البعد الوجداني جرفت أشرعة الحس الأخوي إلى متاهات شبه الانفصال وحولت البسمة العالقة في ذكرى المحيط الواحد إلى حمم حارقة أشعلت قوارب الانتماء الأسري.

عباءة الاحترام أصبحت عاجزة عن أن تواري سوءة العالم المادي، وخزائن التثقيف بحق الكبير والصغير والجار والأخ والقريب والصديق أصبحت مخطوطة مُعلقة على جدران تراث الماضي، تقاسيم الوجه المُبتسم تحولت إلى ألواح جامدة، والدمع المُنسكب على الوحدة والاجتماع والألفة والتقارب جفت موارده فأصبح أثرا بعد عين.

حقائب الوداع تذهب بلا رجعة، وصالات المغادرة مكتظة بالهاربين إلى ديار العزلة، وحبال الذكرى انقطعت تحت وطأة شمس القطيعة، والانفصال والحنين إلى الدم الواحد المُشترك أصبحا فكرا رجعيا لا قيمة له.

تغير كثير من المفاهيم، فأصبحت يد المعروف سارقة، وكلمات النصح والتوجيه كاذبة، والسؤال عن الحال والأحوال فخ لا نجاة منه.

نتصنع الزعل ونختلق الخلافات ونرخي سبلة الأذن لأصوات الشر، وهي تنتزع ما تبقى من نبض مُحب.. مداخن حالات التقنية المُتجددة يوميا تعج بالحماقات، عنوانها الرقي وجوهرها تصفية حسابات خبيثة، ظاهرها الحكمة وباطنها شفرات مُبطنة، رموزها حارقة ونفثها السم القاتل.

الهالة التي تُحيط بك من الوظيفة المرموقة والمركب الجاذب والعطر الساحر والمظهر الفاتن والحساب المصرفي الذي تتبرك في رحابه غدوا وعشيا ولهجة التكلف والتفخيم التي أدخلتها معترك ما لا يألفه اللسان؛ كل ذلك لا يغنيك عن حضن الأخ وبسمة أبناء العم والخال، ولا عن مرح ومداعبة أصدقاء الطفولة.

شاخت الذاكرة وهي تطارد طيفا قريبا هاربا، وضعف البصر وهو ينتظر ظل عزيز غاب خلف رداء الأُفق. كل حروف الشوق تناديك، فمكانك فارغ وصدى صوتك البعيد يهز أعماق أهلك وأحبابك. تعال ودع عنك العتاب فرُب شر هاج أوله العتاب، عد إلينا فقد ذاب الشوق من بركان الوجع وتحطم القلب على عتبة الانتظار.

يقول علي ابن الجهم: وأن طرفي موصول برؤيته/ وإن تباعد من مثواي مثواه، الله يعلم أني لست أذكره/ وكيف أذكره إذ لست أنساه.