أحمد الهلالي

المِنة قد تكون سوطا!

الثلاثاء - 15 ديسمبر 2020

Tue - 15 Dec 2020

مشغول بانتقاء المنتجات من بين أرفف المتجر، لا تشدني كالعادة العلامات والجودة، بل تركيزي على الأسعار والعروض، لأخرج بأقل فاتورة، فهندسة الفواتير أصبحت هما، صابون نصف تنظيف، ومطهر ربع تعقيم، وحليب نصف تغذية، ودجاج بثلثي الوزن (كلو بيمشي)، لم يقطع انغماسي إلا صوت انقلاب عربة التسوق وبعثرة المعلبات، وكنت متأكدا من حدوث ذلك، فالشاب السبعيني (مصلح) مر يدفع العربة مسرعا، ولم تساعده عضلاته هذه المرة على التحكم بها في المنعطف جوار الثلاجات.

هرعت إليه، أساعده في جمع المعلبات، وحين انتهينا أرسل يده اليابسة تعبيرا عن شكره بابتسامة باهتة، وكنت أهز يده لأخلص يدي وأمضي، فنزع السماعات من أذنيه، وقال: ما قصّرت، لكن لا تظن أنك فعلت أمرا عظيما! تلبستني الدهشة، فقلت: لا، أبدا الموضوع ما يستاهل. قال: تدري؟ حين كنت في طريقي لمناقشة الماجستير نفد وقود السيارة، وظللت أومئ للعابرين المسرعين بشماغي حتى توقفت سيارة كان قائدها مألوف الملامح من جماعة مسجد الحي، أخبرته بأمري، فأقسم أن يقلني إلى الجامعة، ثم سيعود ليملأ السيارة بالوقود لاحقا، وكان موقفا شهما لا يُنسى.

مرت الأيام، وجمعني به مجلس صديق، فقال الرجل الذي ساعدني كلاما ليس دقيقا في قضية أعرفها، فشعرت بواجب تصويب المعلومات وفعلت، فرأيت تمعر وجهه، وما ظننته غضب، وبعد يومين جاءني صديقي وقال ما بك أغضبت أبا شكيل، فقلت: لم أغضبه! قال: بلى، قد شعر بإهانة تنكرك لفضله، عليك أن تصالحه، لولا هذا الرجل لما نلت شهادتك، ولما كنت في مكانتك الوظيفية، ولما جرى المال في يديك وتكدس كالسيارات في شوارع الرياض، فثب إلى رشدك واعتذر، ولا تأخذك العزة بالإثم، ولا يقدك الغرور إلى الكبر!!

يقول مصلح شعرت بكلام كثير يقعقع في صدري، ولا جواب يشفي، حتى أسعفتني اللحظة بمثال مطابق، فقلت: يا صديقي أصلح الله الحال، لقد ذكرتماني بإخوة عرب، كلما اختلفت السعودية معهم في الرأي أو التوجه أو شاهدوا منجزا كبيرا أو صغيرا، أو تنظيما داخليا، أو قبولا عالميا، قالوا: نحن الذين علمناكم، ونحن الذائدون عن حدودكم، حتى نفطكم أصله من عظام أجدادنا، ولولا حقولنا وبقولنا، وعقولنا ورباط خيولنا لهلكتم من الجوع والشر، والجهل والعِر، والحَر والقِر، ار ار ار!

نظر مصلح إلى عينيّ مباشرة، وأطلق ضحكته بنغمة أقمشة الفرامل البالية، وقال: وددت تذكيرك أنك ساعدتني ولك الشكر، فانتبه أن يُنقل عنك إنقاذك لحياة مصلح وأسرته من الجوع، فلولا جمعك هذه المعلبات لهلكنا! هيه، الأمر أصغر من شعورك بعظيم الفضل وجلدنا بسياط المنة، ثم أفلت يدي وذهب، وأنا تحت أردية الذهول كأنني الجمرة الباردة، كل أمنياتي أن تنقلب العربة مرة أخرى!

ahmad_helali@