فهد عبدالله

الشغف والتراكم

الخميس - 10 ديسمبر 2020

Thu - 10 Dec 2020

من الأوقات الجميلة التي لها نقوش مميزة في الذاكرة، تلك المشاركة العلمية التي كانت برعاية مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله لرعاية الموهوبين لأحد المؤتمرات العلمية بمدينة جدة، أعتقد أنها كانت في عام 2004 - أرجو أن لا تخذلني الذاكرة. كنا فريقا مصغرا يمثل إحدى الجامعات، وكان برفقتي الأخ الفاضل المهندس مهند أبو دية ولا زلت حتى الآن أتذكر تفاصيل الشغف التي كانت في نهاية الرحلة، عندما قفلنا راجعين بعد انتهاء تلك الرحلة العلمية إلى مدينة الظهران، ووصلنا في وقت متأخر من الليل وكنا ذاهبين إلى السكن الجامعي لنخلد إلى النوم بعد تعب يومين طويلين، وإذا بصاحبي يتوقد نشاطا ليذهب إلى معمل الفيزياء في ذلك الوقت المتأخر من الليل، ليكمل بعض الاختراعات التي في طور التصميم.

حقيقة، في ذلك الموقف أتذكر تلك السكتة الشعورية التي حدثت لدي تعبيرا عن الدهشة الداخلية لما نحن فيه من تعب ولما هو فيه من حالة شغف وانشغال بمواصلة العمل.

عندما نتعرض لبعض سير الناجحين من خلال القراءة أو الاستماع، قد تترنم دواخلنا طربا لطريقة السرد التاريخي الذي حدث، والتفاصيل المجملة التي تراكمت حتى تكونت تلك المسيرة الناجحة، التي من أجلها كتب الناس أو تحدثوا، ولكن أعتقد أن المواقف التي نعيشها بشكل مباشر في ثنايا الناجحين ومن يصنع الإضافة النوعية لمجتمعه ووطنه، أعتقد أن ذلك الطرب سيتحول إلى سيمفونية خالدة ستعزف لك في كل حزة وحين.

ومنذ تلك اللحظات وإلى يومنا هذا، جميع التجارب الناجحة التي أقرأ عنها أو أسمعها أو أراها أجدها تجمع بين صفتين أساسيتين، بمجرد وجودها يمكن تصور وتوقع النتائج المبهرة التي سوف تحدث، وهذا ليس تحجيرا لواسع من الصفات الملهمة في طرق الناجحين، ولكنه تعبير عما رأيت وتوثيق لما لاحظت، ويمكن لها أن تكون بروتوكولا واضحا لمن يريد أن يكون في ذلك الطريق أو محفوفا بتلك النتائج المبهرة.

الصفة الأولى هي الشغف، وهي تلك الحماسة المتقدة تجاه أمر ما يلازمك محبته والانشغال فيه، وقد يمضي انشغالك فيه بالساعات الطويلة دون حساب لهذا الوقت أو ملل من هذه الفترات الزمنية المتعاقبة، بل يجد الإنسان نفسه في تتبع تفاصيل الشغف، وكأنه مصدر عظيم للإلهام الغير منقطع في الحياة ومصدر للتزود بالطاقة غير المتناهية، التي تقود لسعادة حقيقية، فضلا عن الشعور الذي يتضخم يوما بعد آخر بلا انقطاع عن تحقيق الذات، اعرف شغفك ثم انشغل به ولا تنشغل عنه.

الصفة الثانية هي التراكم، وهي متوافقة مع سنة الله في هذا الكون، فالشجرة الفارعة في الطول المزدانة بجمال تلك الأغصان والأوراق الخضراء والمنتجة لتلك الثمار المتنوعة واللذيذة لم تكن في بدايتها إلا بذرة تهيأت لها ظروف متعددة من السقاية والاهتمام البيئي المتواصل، فكانت بفضل الله بعد أجل طويل تلك الصورة الجمالية التي أودعها الله في الكون، وكذلك الجمال البشري، فالشغف هو البذرة والسقاية والاهتمام البيئي هو التراكم الذي يحصل في اتجاهات الشغف، فسبيل التدرج والنمو قائم على هذه الحقيقة، فوجود الشغف مثلا دون التراكم بالتأكيد سيكون الذبول والتقادم هو المصير كما هو الحال بالنسبة لتلك الشجرة.

تأمل سريعا أو بطيئا في جميع التجارب الناجحة من حولك أو من خلال ما قرأت أو سمعت، ستجد أن تفاصيل تلك التجارب التي لها إضافات نوعية هائلة سواء في التاريخ أو في المجتمعات والأوطان؛ مرتبطة بشكل أو بآخر بمعادلة الشغف والتراكم التي تعمل بامتياز لدى أصحابها.

@fahdabdullahz