أحمد الهلالي

الزيف بوصفه أيقونة عصرية!

الثلاثاء - 08 ديسمبر 2020

Tue - 08 Dec 2020

مصلح شاب في الثالثة والسبعين من عمره، كثيرا ما أشاهده بهيئته المهيبة يجلس على كراسي محطة قطار الطائف، وحين عزمت على امتطاء القطار إلى بيشة، صادفته فجلست إلى جواره، فلم يبال بسلامي. كان الفضول يؤزني للتحدث إليه، فانشغلت بتنميق العبارة الأولى وحين هندمتها وهممت بالكلام عن الفرق بين هذه المحطة ومحطة (نفق قطار الهدا) رن هاتفه فأجاب، كان يرحب بشخص يدعوه تيكوكاما، ويصرخ ضاحكا (لن أتحدث إلا بالعربي)، كانت ضحكته مزعجة تشبه اشتغال السيارة ببطارية مسحوبة، لكنها لم تثنني عن سماع ما يقول.

استمرا في حديث فاحش، ثم فجأة صاح: جورج جورج لحظة لحظة! فعلمت أنها مكالمة جماعية عالمية، الله وحده يعلم عدد المتحدثين فيها، ثم أخذ مصلح يقول: نعم أصبت، نحن في زمن الزيف والحيف والتزييف، شاؤوا أم أبوا، جل الأشياء حولنا مزيفة: الناس، المشاعر، الأخلاق، التقاليد، الآداب، النقد والعلوم... ثم صمت قليلا يستمع إلى أحدهم، فقال: طبعا (صبركم علي) سأفصّل. لم أكن أعلم أنني اقتربت منه إلى درجة جعلته يشير بملامحه ويده مستنكرا اقترابي، فعدت إلى مكاني.

أخذ مصلح يفصّل: يا كومار، أقدّر ميراثك عن غاندي، لكن انظر كيف أصبحت المرأة تغير لون شعرها وبشرتها وعينيها، وتستعير الرموش والشعر والجلد والحشوات وتظهر لك بخلق جديد، أليس هذا زيفا؟ وانظر إلى بعض الباحثين وهم يسرقون أو يشترون أبحاثهم وأفكارهم، وإلى بعض المبدعين وهم يدفعون لنقاد يكتبون عنهم وعن إبداعاتهم، وانظر إلى تقليد السلع والمنتجات، وتأمل واجهات المباني، والقصائد (المزبرقة) بزحام الاستعارات المتنافرة، وتلون الأصدقاء، وتأمل باعة الضمائر والمبادئ، وهل تتذكر حديث شان جيو عن حرص زوجته وعنايتها بالطبخ والسفرة حين تنوي تصويرها، وعن حالهم حين لا تروم ذلك؟!

أطلق مصلح ضحكته المزعجة وفي آخرها قال: (نعلبو إبليسك يا جيوفاني) نعم أتفق معك حتى الدراما والمسرح صار بعضها مزيفا، يشعرك القائمون عليها أنهم من كوكب آخر، فمثلا فكرة (فقدان الذاكرة) كم عمل وظفها، وكذلك انحطاط الذائقة الفنية حتى أصبحت الكلمات السوقية أغاني مرقِصة، وتأمل مفاهيم الحرية المغلوطة، وتفحص أيضا حال الكثيرين وهم يملؤون الآفاق تنظيرا لا يوافق أفعالهم، إنه زمن التزييف بامتياز يا أصدقائي، وكلنا نعاني منه، ونحاول تطوير أدواتنا لكشفه.

وصل القطار، فسرت خلف مصلح وهو يودع أصدقاءه قائلا (الله يسقي أيام أرامكو)، فأدركت دورها في كسر حواجز اللغة بينهم، ثم تنهد قائلا: سأضطر لتوديعكم يا أصدقاء، وقال بما لا يريد أن أسمعه: (ولكي تعلموا حال زماننا؛ سينشر متلصصٌ قريبا مقالا مزيفا عن حديثنا اليوم) وأطلق ضحكته الأليمة، ثم رمقني بنظرة المنتصر، وتشاغل بتنظيف نظارته الحمراء!

ahmad_helali@