عبدالخالق المحمد

تهافت الإعجاز العلمي.. أشعرٌ جاهلي وإعجاز علمي؟!

الاحد - 22 نوفمبر 2020

Sun - 22 Nov 2020

قال عبيد بن الأبرص: أرقت لضوء برق في نشاص / تلألأ في مملأة غصاص. لقد أثبتت الدراسات الآن أن الضوء له علاقة وثيقة بذهاب النوم واستمرار الأرق، وهو ما أشار إليه ابن الأبرص في مطلع قصيدته، بل إن الباحثين قالوا: إنه نظرا للأدلة العلمية الحديثة، بما في ذلك نتائج دراساتنا، قد تكون الإضاءة الساطعة عاملا خطيرا جديدا لوصف الأدوية المنومة. ثم قال ابن الأبرص إن هذا الضوء الساطع المتلألئ قد شاهده في نشاص، ومن هنا نستخرج قانون قياس شدة الإضاءة في الفيزياء، ش= ق، حيث (ق) هي قوة الضوء وهو البرق في قصيدة ابن الأبرص، وأما الـ (ف2) فهي بعد المنبع الضوئي وهو ما أشار إليه بحرف الجر (في)، وأما (ش) فهي شدة الإضاءة في قوله نشاص، أي السحاب المتراكم حين اشتدت إضاءته بالبرق.

وقد عرض هذا الصدر من البيت الشعري في مؤتمر للفيزياء، فقام أشهر بروفيسور أمريكي في الفيزياء وقال: هذا لا يصدق كيف عرف ذلك؟! ولما شُرح له أن هذا شاعر مات قبل عشرات القرون، ولم يكن هناك أي علوم ومعارف في وقته، قال: إذن هو يتواصل مع عوالم ما وراء الطبيعة. يا له من اعتراف عزيزي القارئ بإعجازية هذا الصدر من البيت، ولولا ما يكنه الغرب الكافر للعرب من حقد لشاهدتهم يحتفلون ويسارعون بمثل هذا الإعجاز والسبق.

ولكن نحن لم نكمل البيت السابق، ولنبدأ في إعجاز آخر من وجوه الإعجاز في شعر عبيد بن الأبرص، وهو في وصف السحاب ونزول المطر، والذي لا يجحده إلا مكابر معاند - والعياذ بالله، هل تعلم معنى قوله: (في نشاص)؟

النشاص هو السحاب إذا تراكم، وهو نوع من أنواع السحب التي اكتشفها العلم حديثا، وهو السحاب الركامي، ويا للغرابة، فعالم الأرصاد الجوية الإنجليزي لوك هوارد (Luke Howard) عندما قام في مطلع القرن التاسع عشر بوضع تصنيف لأنواع الغيوم أعطى لأحد أنواعها التسمية الشعرية نفسها لهذا النوع، وهي السحب الركامية، حيث أعطى هوارد الكلمة اللاتينية (Cumulus)، التي تعني ركام أو متراكم!

وهذا النوع يتألف من ثلاث طبقات: عليا ووسطى وسفلى، وقد بين العلم الحديث أن هذه السحب الركامية تصحبها عواصف وتقلبات جوية ورعد وبرق شديد، وهو ما أشار إليه ابن الأبرص قبل وصول العلماء له بعشرات القرون.

ثم قال (في مُملّأة غِصاص)، هنا تعبير واضح لثقل السحاب، إذ إنه ممتلئ وقد غص بالماء من شدة امتلائه، وهذا السحاب الثقيل نوع من أنواع السحب يرتفع عن سطح الأرض أقل من عشرين كلم وحمولته من الماء قد تصل ستمئة طن من الماء.

كيف عرف ابن الأبرص أنها ثقيلة ممتلئة تغص بالماء دون غيرها من أنواع السحب التي تطير في الهواء؟ لو حدثت كثيرا من الناس اليوم عن بعض هذه المعلومات لما نظر إليك إلا باستغراب ودهشة وربما عدم تصديق.

وننتقل الآن إلى البيت الذي يليه حيث قال: لواقح دلح بالماء سحم / تثج الماء من خلل الخصاص، يتحدث هنا عن تلقيح الرياح للسحب وتلقيح السحب بعضها بعضا، وهذه اللفظة (لواقح) هي وايم الله شيء عجيب وأمر غريب! إذ إن العلم الحديث والعلماء يُقسّمون التلقيح إلى ثلاثة أنواع، الأول: تلقيح السحب الحارة بالسحب الباردة وينتج عنه المطر. الثاني: تلقيح السحب موجبة الشحنة بالسحب سالبة الشحنة، وهذا ينتج عنه البرق والصواعق الرعدية، وأغلبه في السحب الركامية. الثالث: تلقيح السحب من خلال أنوية التكاثف التي تحملها الرياح.

يا له من ربط واضح بين الرياح اللواقح وإنزال المطر من السحب الثقيلة الممتلئة بالماء، والتي أشار إلى لونها الأسود بقوله (سحم)، ثم انتقل ابن الأبرص ليقول إنها تُنزل الماء من خلال الفروج التي بين الغيوم، ومن ثم استمر في قصيدته الصادية يصف السحاب وتكونه وتآلفه والمطر ونزوله في وصف بيّن، للأفهام هيّن، ولكن من يلتفت لديوان العرب؟ فيمتعنا بمثل هذه الوقفات ويتحفنا بمزيد من هذه التأملات، ويسيح في شعرهم فيستكشف مكنوناته ويستظهر مخبوءاته. وفي الأخير دعونا نتساءل: من الذي أعلم هذا الشاعر الجاهلي بكل هذا؟!

مهلا عزيزي القارئ مهلا، هل تساءلت ما هي الدراسات؟ وأين هي النظريات؟ وأين تلك المؤتمرات؟ وأين مصادر الأبحاث العلمية؟ وما هو اسم البروفيسور؟ وهل هو حقيقي أم خرافي؟ هل تضايقت من التعسف في إيجاد توافق بين العلم التجريبي وهذا النص؟ هل رأيت الإطناب والصخب والإجلاب عند لفظة معينة وتحميلها ما لا تحتمل من معان؟ هذا هو عين مذهب أهل (الإعجاز العلمي)، وإن قمنا نحن بذلك في كلام شاعر جاهلي وما وجد قبولا من نفسك؛ فكيف بمن يقوم بذلك في القرآن الكريم؟

أليس إيضاح معاني القرآن هو القول عن الله؟ كيف يُجعل القرآن عرضة لعقل كل رياضي يجيد النسبة والتناسب و(جيولوجي) ناظر في الآثار والرواسب، وكيميائي باحث لما يكون للذرة من فاقد وكاسب، وفيزيائي بنظرياته يجزم ويحاسب، و(بيولوجي) كل شيء للطبيعة ناسب؟ ولأن هذا الأمر جاء في زمن للعلم التجريبي فيه سطوة، ولكل آخذ به في نفوس الناس حظوة؛ امتنع بعض أهل الشريعة والفهم عن الاعتراض، والوقوف في مجرى السيل الجارف الفياض، وأحب البعض لنفوسهم السلامة، فظن أهل الإعجاز أنها على رضاهم علامة، فتمادوا في هذا الغي، ولووا أعناق النصوص أشد لي فجعلوا لها معاني جديدة، وقوالب فريدة، وزعموا أن آراءهم هي السديدة؛ فرموا سابقيهم بالتجهيل، فلم يسلم العالم الجليل، والتابعي الفضيل، والصحابي الذي عاصر التنزيل، ومن أُمر بتبيان ما نزل إليهم بالامتناع عن التأويل! ولو أدرك صاحب الملل والنحل هؤلاء، لجعل لهم من كتابه جزءا مقسوما.

وأتمنى ألا يغيب على القارئ الكريم أن نقدنا لما يسمى (الإعجاز العلمي) في هذه السلسلة من المقالات لا يتعدى إلى القرآن والسنة بشيء، لأن نقد الدليل المعين لا يلزم منه نقد المدلول الثابت بأدلة أخرى والحمد لله.

@Abdulkhaleqalm