ياسر عمر سندي

الأعمار بيد الله

الأربعاء - 04 نوفمبر 2020

Wed - 04 Nov 2020

كثيرا ما تتردد على مسامعنا عبارة «الأعمار بيد الله»، وأعمار البشر وغيرهم من المخلوقات، سابقهم ولاحقهم على هذه البسيطة، هي بيد الله سبحانه وتعالى، والبشر كمخلوقات عاقلة مقررة لمصيرها أكرمها الله بعمرين، هما: العمر العقلي، والعمر الزمني.

سأركز في هذا المقال على جانب التآزر والتواؤم بينهما، لأصل إلى مدى الاستفادة من خبرات الحياة وحسن التصرف للوصول إلى الهدف، فقد خاض في تحديد العلاقة بينهما - أقصد العمر العقلي والزمني- كثير من علماء النفس، وتحديدا المتخصصين في علم النفس المعرفي Cognitive، الذي يبحث في العمليات العقلية العليا المدبرة لتصرفات وسلوكيات البشر حتى يصلوا للمعرفة، كالفهم والإدراك والتحليل والربط والتصور والتخيل والتخزين للذاكرة طويلة وقصيرة المدى، والطلب للوصول إلى الحلول، وعلم النفس المعرفي يبحث أيضا في فهم الظواهر الإدراكية للعقل البشري، وكيفية ترجمة وتفسير الرموز الدخيلة عليه، وعملية تتبع الموصلات العصبية الناقلة للمعلومات، والآمرة من المخ لأطراف الجسم المختلفة.

يقول كل من: درنالد نورمان وديفيد وميلهارت: نحن معشر علماء علم النفس المعرفي نهتم بمجال واسع يحاول الإجابة عن التساؤلات الآتية: كيف يدرك الناس؟ وكيف يتمثلون؟ وكيف يتذكرون؟ وكيف يوظفون المعرفة؟

وتخزين المعرفة المدركة لمختلف المجالات وعلى مرور ما مضى من سنوات تحتاج إلى عمليات لاستجدائها وتقفي أثرها وقت الحاجة، وفي الوقت المناسب لمواجهة أي معضلة قابلة للحل، حتى وإن تعثر وجود الحل فإن العمليات العقلية المشار إليها سلفا تساعد في البحث عن الحلول لدى الآخرين، سواء كانوا أشخاصا أم مصادر معلومات تقنية أو مقروءة أو مسموعة.

أرى أن العمر العقلي مجموعة مكونة من الخبرات والمهارات والذكاءات، اندمجت وتكونت من الذاكرة البشرية البعيدة والقريبة، والتي تمكن الإنسان من التقدير بما يتماشى مع عمره الحقيقي تبعا لأنماط التفكير عند كل مرحلة عمرية. والعمر الزمني هو مدة الحياة منذ الولادة، وحسابها بالسنوات والأشهر والأيام والساعات لآخر دقيقة في الحياة، ومن المفترض أن يرتبط العمران بعلاقة طردية، وفي الغالب فإن الإنسان الطبيعي كلما زاد عمره الزمني زاد معه عمره العقلي، لذلك نرى من يملك درجة الاستواء الجسدي والعقلي فإن الخبرات الشخصية والقصص الملهمة تلازمها الحكمة لمعالجة المعضلات الحياتية، والاستبصار بالنعم المادية والمعنوية الممنوحة له كمخلوق، والتي تستقر وتشتد في سن الأربعين من العمر، كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم في سورة الأحقاف «حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي..» الآية 15.

وفي رأيي الخاص، فإن هذا الشاهد من الآية الكريمة دلالة على أن المعرفة لدى الإنسان تتربع على عرش الخبرة، ومن جانب آخر أوضح الخالق البارئ في محكم تنزيله في سورة البقرة «وعلم آدم الأسماء كلها..»؛ بداية التعليم لأب البشرية آدم عليه السلام، وما يتبعه من ممارسة لهذا التعليم بالتطبيق مع تقدم السن، لينتقل بالمواقف والخبرات إلى المعرفة الكامنة، ومن ثم إلى الحكمة والرشد، وهي فترة المشورة وإعطائها، كما أطلق ذلك على خلفائنا رضي الله عنهم وتم وصفهم بالرشد، لما استقوه من معلومات بصحبة نبينا صلى الله عليه وسلم إلى أن مارسوا هذه المعلومات، حتى أصبحت معرفة فبلغوا بها مرحلة الرشد في تصرفاتهم وسلوكياتهم، وأصبحنا نستقي ونرجع إليهم كمصدر تشريعي ثالث بعد الكتاب والسنة وهو «فعل الصحابة».

كذلك نجد أن الأمثلة تنطبق على المرأة، وقد تسبق أحيانا الرجل في بلوغها للحكمة وصواب القرار، مثل فعل أم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله عنها عندما احتوت النبي عليه الصلاة والسلام في خوفه ووجله أثناء نزول جبريل عليه السلام، فعالجت بحكمتها ما أصابه بكل عقلانية ورشد عندما علمت أنه الناموس والوحي المنزل، بعد أن أكد لها ورقة بن نوفل ذلك، وكذلك الصحابية الشفاء بنت عبدالله عندما كانت حكيمة وصارمة في قولها وفعلها، حيث أوكل إليها الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر الحسبة في المدينة ومراقبة التجار في البيع والشراء.

فالمعرفة هي محاكاة ونمذجة ومجاراة لخبرة عقلية فذة مع مرحلة عمرية خصبة، لتنتج فهما إدراكيا عظيما تتواءم معه مرحلة العقل مع الزمن لإصدار الحكم الراشد، مع التركيز بالاستزادة وتوظيف العقل بما يدركه من مفاهيم ومستقبلات راقية حتى يرقى معه الفكر والخبرة والمعرفة.

ومن المؤسف أننا نرى في واقعنا المجتمعي المعاصر، من بلغ الـ 60 من عمره الزمني من الجنسين الذكر والأنثى، وبعضهم تجاوزا ذلك، ونفاجأ بانتكاسة تصيبهم في عمرهم العقلي، بتصرفات وسلوكيات لفظية وفعلية وايمائية لا ترتقي للخبرة الزمنية التي تطرح حصادها في هذه المرحلة من الحكمة والرشد، وأصبحنا نشاهد تصرفات يخفق فيها الكبار، ونلمس في آراء الصغار من يصيب بها.

صحيح أن الأعمار قدرية بيد الله، ولكن قيمتها تقديرية بيد البشر.

@Yos123Omar