مرزوق بن تنباك

تحية التقبيل في زمن كورونا

الثلاثاء - 15 سبتمبر 2020

Tue - 15 Sep 2020

غيرت كورونا في كثير من السلوك الذي عرفه الناس، ومن العادات والتقاليد الاجتماعية السائدة، وأكثر ما غيرت هي ما تواضع عليه الناس من صور اللقاء والترحيب والتحية والتعبير عن المشاعر نحو الآخرين، فقد كان للناس عادات كثيرة ومختلفة في السلام واللقاء وإظهار العواطف والتعبير عنها في أساليب كثيرة، منها الكلام ومنها الإشارة ومنها الحسي المباشر كالمصافحة بالأيدي والتقبيل على الخدود أو تناطح الأنوف وغيرها من أنواع التعبير المجازي والحسي.

وفي كل العادات والثقافات هناك ما هو متفق عليه ومقبول للمجتمع حين يظهر عواطفه ويريد أن يشرح ما في ضميره لمن يعز عليه، وفيه مصطلحات وحدود معتبرة وما زاد عنها عد مخالفة للعرف والتقليد.

ولأنني لا أحيط بعادات الشعوب والأمم ولا حتى في محيط الشعوب والقبائل في جزيرتنا العربية يمنها وخليجها بل لا أزعم أنني أعرف حتى عاداتنا في الحواضر والبوادي كلها فإنني سأتحدث عما أعرفه في عادات التقبيل والتحية بها وذلك في زمن مضى وليس اليوم.

من مقروء التراث العربي القديم أن التحية للأنداد هي المصافحة فقط وليس التقبيل، وأما التحية لأهل الشأن وكبراء القوم وسادة المجتمع فهي القيام لهم وتحيتهم وقوفا وذلك شرف لا يحظى به إلا القليل، وشاهد ذلك المثل العربي (فلان تحل له الحبوات) وقول الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصار: قوموا لسيدكم: في حديث مشهور.

وهناك إشارات لتقبيل الجبين للرجال وهي قليلة جدا وليست هذه القبلة تحية وسلاما ولكنها إعجاب وتقدير وموافقة على رأي يطرحه أو قول يفوه به فيكون جزاؤه وإعلان الموافقة على رأيه قبلة على جبينه يطبعها أحد الحاضرين وقد حدث ذلك من عمر بن الخطاب لابن حذافة السهمي في مناسبة مذكورة.

أما ما أعرفه في عادات قبائل الحجاز وأعني به ما بين الحرمين فإن التقبيل لا يكون في كل لقاء بين الناس وحتى المصافحة لا تكون دائما لكن في الغيبة الطويلة التي تستغرق الأشهر والسنوات تكون التحية بالتقبيل.

وهناك استثناء وحيد وهي الأعياد وما تجلب من السرور والأفراح وما يكون فيها من صور التسامح البريء حيث يقبل الرجال النساء في مشهد وملأ من القوم في طقوس معروفة مثلما يحدث التقبيل بين الرجال والنساء في الغرب على صفحتي الخد للمرأة ولا يتجاوزون لما وراء ذلك.

وقد لمح أحد الشعراء لامرأة من قومه فأوعدته ذلك اليوم المشهود وأمام الناس وليس بينهما في خلوة (الله عطاك بنهار العيد عقب الهلال في حضرة الناس يوم إن الخواطر تشيل) ولمن لم يفهم معنى ما بين قوسين أحيلكم للسيد عبيد السيد أو وليد النعماني فهما أعلم بشعاب هذا القول.

وأما تقبيل الأيدي والأطراف فغير معروف في قبائل الحجاز وأظنه عند كل القبائل حتى للوالدين وإنما نقبل جبينهما، وأذكر أنني عندما تحضرت ورأيت زملائي يقبلون أيدي آبائهم حاولت تقليدهم بتقبيل يد الوالد رحمه الله، فنظر إلي مستغربا وسألني لماذا؟ فأخبرته بأن المتحضرين يقبلون أيدي آبائهم فقال حسنا فعلوا وحق للوالدين واجب، لكن أخشى أن تتعود على تقبيل الأيدي بعد ذلك وتغريك طرق المجاملة فيما لا أرضاه لك فإياك إياك أن تفعل، لكن إذا أردت أن تعظم أحدا وتجله وتكرمه فضع قبلة على جبينه تعطيه حقه من الإجلال وتحتفظ بكرامتك ولا تنحني قامتك أمام أحد غير الله.

لم تفارقني هذه النصيحة ولم أعمل بغيرها حتى عندما تغيرت عادات الناس، وصرت ترى من يقبل الأيدي والأطراف في كل المناسبات واللقاءات، وقد وجدت نفسي ملزما ألا أخالف نصيحة الوالد، وفي بعض الأحيان أكون الوحيد - ممن يجمعهم المجلس - الذي لا أزيد على السلام بالمصافحة كعادة العرب.

Mtenback@