علي المطوع

الكتابة من الكفاءة إلى الكفاية

الاحد - 16 أغسطس 2020

Sun - 16 Aug 2020

الكتابة بوصفها من أقدم وسائل التعبير وأكثرها رسوخا وحفظا في التراث الإنساني، تمر اليوم بأزمة حقيقية، أزمة في الرواج والصناعة والتلقي والتأثير.

هذه الأزمة قد يكون منشأها الأمية بأشكالها المتعددة والمتجددة، فالأمية في أصلها كانت تعني انتفاء القدرة على القراءة والكتابة، واليوم تعيش الإنسانية أمية أخرى، البعض يسميها أمية المتعلمين، والبعض يراها ضحالة التفكير، وآخرون يرونها ممثلة في ضحايا التلقين، في البيت والمجتمع ومحاضن التعليم.

هذه الأمية كانت سببا وجيها في إخراج جيل جديد/قديم من الكتاب يكتب لنفسه، يكتب دون أن يؤثر في أحد ودون أن يكون قادرا على صناعة فعل إبداعي يبقيه في دائرة الحضور ونشوة الإنجاز الثقافي الذي يعرفه ويعيه صناع الإبداع في الكتابة بأنواعها المختلفة.

الثورة الرقمية التي يعيشها العالم اليوم شكلت حالة ثقافية غريبة تقوم على المشاهدة وتأثيراتها، هذه المشاهدة أصبحت مصدر التغذية الوحيد الذي يستطيبه الفرد ويطلبه ويطالب به ليفهم العالم ويتفاهم معه، مشهد في دقائق معدودة يعيد تشكيل الخرائط الذهنية للناس ويبدأ في رسم مسارات جديدة للفهم ومشارب عديدة للممارسة يستقي منها الفرد ثقافته ووعيه وأثره وتأثيره وطرائق فهمه وتعاطيه مع عالمه الخاص والعالم من حوله.

في مجتمعنا السعودي صنعت الكتابة - تحديدا - رموزا إبداعية ما زالت حاضرة في المخيال المجتمعي، وما زال أثرها الإبداعي يدرس ويدرس، وما زالت هذه الأسماء الخالدة حاضرة بقوة في مشهدنا الكتابي من خلال أعمالهم التي زفتها المراحل السابقة إلى مرافئ القناعات النخبوية الخاصة والجمعية للناس بأن هؤلاء علامات فارقة وأرقام استثنائية غارقة في الإبداع الإنساني ومشاهده المختلفة، ومنها المشهد الثقافي السعودي والعربي، فغازي القصيبي بقامته الأدبية الفارعة وعمقه المعرفي، شكل حالة كتابية صعبة، صعبة في كونها ما زالت تعد المقياس الذي تقاس به الحالات الإبداعية ونتاجاتها المختلفة عند الخواص والعوام، فشاعريته حفظتها الذائقة من خلال تلك الألحان التي أصلته شاعرا لا يشق له غبار، ورواياته حققت أرقاما كبيرة في التداول والحفظ والاستشهاد، ومقالاته ما زالت تستذكر كونها كانت سبقا على مستوى السبك والعمق والاستشراف، كل ذلك وأكثر صنع من القصيبي كاتبا مبدعا متجليا ما زال ذكره وتجربته يعدان سقفا لم يستطع الكثير تجاوزهما حتى الآن، وهنا يحضر السؤال، لو تأخر القصيبي في حضوره ليكون بيننا اليوم بكل ظروفه وهالاته الرسمية والشعبية، هل كان سيكون غازي القصيبي الذي خلدته الكتابة ووثقته تجلياتها في تلك المرحلة الماضية؟!

الكاتب يحفظه القارئ المثقف، وهذا القارئ يشكله فعل إبداعي يلامس همومه ويرضي نوازعه ويتماهى مع ثوابته وينسجم مع هويته، الكاتب أيا كانت درجته وتوجهه يظل يبحث عن القارئ، فهو المتلقي الذي يروج لبضاعته، وهو المستهلك الذي بيده رفع مستوى تلك البضاعة أو خفضها، وهنا تكمن صعوبة الكتابة في هذا الزمن الرقمي العجيب الذي تراجعت فيه الكتابة وحل محلها المحتوى الرقمي المشاهد الذي يملأ حالة المتلقي ويعيد تشكيلها وفق حالة العصر وما تقتضيه من سرعة في الصناعة وتسارع في التأثير.

كل ذلك شكل حالة ثقافية غير مسبوقة تراجعت فيها الكتابة وصناعها عن موقعهم الريادي وصار الكاتب اليوم في سوق الثقافة وعالمها مجرد إصدار قديم وبضاعة مزجاة يزهد فيها جمهور الناس كونه حالة ماضوية صادرتها المرحلة الرقمية الجديدة ومؤثراتها الخطيرة ومؤشراتها الأخطر.

وفي الختام يحضر السؤال الهام، في ظل انكفاء الكتابة وتناقص مساحة تأثيرها وتعاطيها - على الأقل عربيا - لماذا نكتب طالما أن هذه الكتابة مهما تجلت وسمت لن تستطيع مجاراة الوسائل التقنية الأخرى في سرعة الوصول ورسوخ التأثير ومقتضيات المرحلة؟

alaseery2@