عبدالله الأعرج

سطوة المهن!

الاحد - 16 أغسطس 2020

Sun - 16 Aug 2020

من ينطلق في مشروع يحتاج فيه إلى مهنيين في مجالات متعددة: كالبناء والسباكة والنجارة والحدادة واللياسة والدهان والجبس وغيرها فسيكون على موعد مع رحلة شوق لإتمام مشروعه، ورحلة شقاء لعظم ما سيجده من خيبات الأمل قبل أن يجني النتيجة المكلفة روحا وجسدا!

فهب أنك تريد أن تبني منزلا متواضعا لك ولأسرتك، فإن أول هذه الرحلة المهيبة بعد إتمام خرائط الإنشاء سيكون مع المقاول الذي سيجعل منزل العمر في أول لقاء لك معه لامعا شامخا أنيقا وكأني بك حينها وأنت تتخيل نفسك متكئا على أريكتك الجميلة في غرفة المعيشة تتابع برنامجك المفضل وتتبادل أحاديث الود مع زوجتك الصالحة والأطفال يلهون أمامكم في مشهد لا تعادله سعادة ولا تشبهه روعة سوى قصص الخيال التي قرأتها في مرحلة ما من حياتك!

هذا الشعور الجميل سيصطدم حينما يتغيب المهني عن العمل في أول أسبوع ثم يتكرر غيابه بعد ذلك وتبدأ سلسلة الأعذار على غرار: النجار مريض! والحداد دعس على مسمار، والعمال ذهبوا لإكمال عمل في مشروع آخر وسيعودون قريبا.. ويبقى الأمر كذلك تحسبه قريبا ويرونه بعيدا!

ثم ينطلق مسلسل نقض الاتفاقات، فالسباك لا يرى أن من واجبه حفر الأرض لتمديد المواسير، والحداد لا يرى أنه مسؤول عن وضع الحديد في المكان المناسب من أرض المشروع، وسائق الشاحنة يتصل بك ليطلب منك إبعاد البلوك والاسمنت عن طريقه، والمقاول يطلب منك إحضار عمال من قبلك لئلا يتعطل عملك، وهذا لا يقوم برش المباني، وذاك لا يزيل مخلفات البناء، وثالث يطلب منك مالا مقابل التأكد من أن عملا أنجز لك.. وبين كل هذه الفصول المتشابكة إحباط يتسلل إليك دليل الشقاء: شعرة بيضاء تنبت في ناحية من رأسك وأخرى تغازلها هناك!

ويستمر مسلسل الكر والفر وسد الثغرات والقسوة على الذات والسهر ليلا والمتابعة نهارا ملاصقا لك رغبة في الوصول لتلك اللحظة التاريخية التي ستستطيل فيها وتقصر على أريكتك وتشاهد برنامجك وهي وهم حولك!

ولأن الأمر لن يصل إلى نهايته إلا بشق الأنفس وسيرافقه من الإخفاقات وإخلاف المواعيد وتعديل الأجور وتغيير التفسيرات واختلاف وجهات النظر بينك وبين المهنيين الذين يعملون بمشروعك، والتي ستكون الغلبة فيها للمهني شئت أم أبيت، فإن الأمر يدعو للتأمل عن سبب هذه السطوة للمهني والذي لم يعد يخفى على من قدر له أن يخوض هذه المعارك ذات مشروع! دعوني أعدد أهمها:

1 - غياب العمالة الوطنية المهنية التي تعمل في مجالات البناء والإنشاء بشكل خاص مما يعني القبول والرضوخ والإذعان لطلب العمالة الوافدة ولسان حال الموقف يقول: (العروس واحدة والخطاب بالمئات).

2 - عدم وجود الجدية في عقود العمل بين المالك والمقاول وعدم دراستها بشكل واف والتعامل معها كنماذج صورية لا تلزم المهني بشيء بل تجعله يلوح بفيتو مغادرة المشروع إن تشبث المالك برأيه وحينها سيكون البديل عزيزا!

3 - غياب أخلاقيات العمل المهني عند التعاقد عند الكثير وتقديم نوع الحديد وجودة الخشب ومدة رش الماء ونعومة اللياسة على تجنب الغياب وأمانة العمل ونظافة المكان واحترام الأملاك العامة والخاصة وارتداء زي العمل لأغراض السلامة وحسن التعامل مع المهنيين الآخرين بالموقع واحترام رأي المالك!

4 - استحواذ المهنيين الوافدين على مشاريع تفوق طاقتهم العمالية وتجهيزاتهم اللازمة الأمر الذي يخلق منصات للتكاسل والغياب وتضارب المصالح والاختلافات الدائمة والأجواء المشحونة بينهم وبين الملاك!

5 - الأخطاء المهنية التي تتعلق بإنجاز المشروع وفق (الأصول المتبعة)، وهي العبارة الأكثر غموضا في تاريخ المشاريع، حيث تحمل تفسيرات متباينة بين كل الأطراف ومع كل تباين يتدفق المزيد من الأعصاب التالفة والأموال المنصرفة!

أختم بأن المهن حياة وأن المهنيين لا يموتون في السلم والحرب، وأود رغم قتامة الصورة أن أؤكد أن المهنيين من العمالة الوافدة يجنون آلافا من الريالات في بضعة أسابيع تفوق في بعض الأحيان ما يحصل عليه حملة الدرجات الجامعية، لذا أرجوكم أبنائي وبناتي وإخواني وأخواتي أبناء هذه المملكة الغالية أن تنخرطوا في كل المهن دراسة أو خبرة أو احترافا أو تطوعا لحين الإتقان إن تعذر ما سبق، وأن يكون عملكم في هذا الكنز المهمل عصريا متحضرا وأخلاقيا معتبرا وستجدون من وطنكم وأبنائه وبناته كل دعم لتغيروا به هذا الوجه البائس لسطوة المهن، فأنتم أهل الدار وأعز الجوار وأحق بكل افتخار.

dralaaraj@