رابعة منصور

أكل الخفافيش «ستيل (still) ما ضر أحد»؟!

السبت - 18 يوليو 2020

Sat - 18 Jul 2020

الحرية، النزعة البشرية والمطلب الإنساني الذي شغل الناس وأشبعه الفلاسفة تنظيرا، ما زالت إلى اليوم معضلة الدساتير الساعية لضمان حرية الفرد كأحد محاور الرفاه وتطور المجتمعات. ومع صعود الرأسمالية وانتقال البشرية من حقبة الأنظمة الروحية التي تميز العقد الاجتماعي فيها بتقديم مصلحة الجماعة على حرية الفرد، تعود كل مرة مسألة الحرية الفردية (individualism) إلى الواجهة كقضية شائكة يشوبها كثير من الجدل.

وبعيدا عن مفاهيم الحرية في الحتمية والوجودية، السلبية منها والإيجابية، فالحرية كما تعرفها الأنظمة الديمقراطية ببساطة هي التخلص من القيود الجبرية، سواء مادية أو معنوية لتتمكن الذات البشرية من اتخاذ القرار ضمن ما يسمح به القانون! بحيث يضمن هذا القانون منظومة متناسقة لا تتعارض فيها حرية كل فرد مع الآخرين، وتتسق مع أهداف والتزامات الدولة، وبذلك نكون عدنا مرة أخرى للعقد الاجتماعي، إنما بشفرة القانون هذه المرة وليس الدين.

لكن في خضم تعقيدات العالم المفتوح الذي نعيشه اليوم، ما هي حدود حرياتنا الفردية؟ وكيف نحدد فعلا أن سلوكا ما «ستيل (still) ما ضر أحد»!

«أنت حر ما لم تضر» العبارة السهلة الصعبة! وتكمن صعوبتها في تحديد المدى البعيد لأضرار السلوكيات الفردية وحق الآخر في عدم تحمل نتاج حرية ذاك الفرد. ولعل أهوال جائحة فيروس كورونا المستجد التي يتكبدها العالم اليوم أنموذج حي لمجرد تصرف فردي بحت، لكنه جعل أصواتا تتعالى عالميا مطالبة بوجوب ترويض مزاج المعدة الصينية رغم أن أكل الخفاش كان يفترض أن يكون ضمن بند «ستيل (still) ما ضر أحد»!

على نسق تلوث الهواء بانبعاثات السيارات الفردية، قدرت التكاليف الاجتماعية للحرية الفردية في تعاطي الكحول في أستراليا في (2004-2005) بما يزيد على 15 مليار دولار أمريكي (Collins & Lapsley 2008) شملت تكاليف العمل والصحة ونظام العدالة الجنائية وانخفاض إنتاجية العامل، إضافة لخسائر الأرواح في حوادث الطرق والعنف المنزلي والانتحار. وفي الولايات المتحدة يكلف علاج المشكلات الناتجة عن التدخين نحو 300 مليار دولار سنويا.

وكلفت الحرية الفردية في اقتناء السلاح المجتمع مشكلات أمنية.

الحرية الفردية في ممارسة العلاقات الجسدية نتجت عنها أيضا مشكلات اجتماعية شتى، تكبدت المرأة جُلها بحسب الدراسات الأمريكية. المرأة العزباء هي إحدى نتائج تلك الحرية التي خلقت أفرادا غير سليمين نفسيا، فقد أثبتت الدراسات في السويد وأمريكا أن أطفال عائلات العائل الوحيد لديهم ضعف معدل الإصابة بالأمراض النفسية، وتدن في احترام الذات، ومحاولات الانتحار وتعاطي الكحول، وهم أكثر المساجين مقارنة بالأطفال في عائلة بوالدين.

الحرية الفردية المطلقة في المظهر نتج عنها تنميط وتشييء للمرأة في الإعلام، تحول بدوره لمعضلة واقعية تواجهها النساء عالميا، وتتمثل في حالات الاعتراض على الذات التي تصل للانتحار أحيانا، عدا عن تأثيرها على الرجل في نظرته للمرأة، وأثر ذلك الكبير على جوانب استقرارها النفسي والعاطفي وحتى الأسري.

حرية الإعلام المطلقة بلا ضوابط وصل أثر ضررها إلى الأبرياء أيضا، وقد يكون من المجدي هنا أن نتذكر وسم #fiftyshadesisabuse الذي ظهر مع أوسمة أخرى بالتزامن مع خروج نساء للاعتراض على محتوى الفيلم الشهير «الإباحي تقريبا» Fifty shades of grey، وذلك بسبب ترويج الفيلم لاحتقار النساء والعنف ضدهن، لكن الواقع أن أثره استمر، بينما ربح صانعوه الملايين دون أدنى اكتراث لمدى أثره، لأنهم ببساطة كانوا يستندون لمبدأ حق الحرية الفردية.

أما الحرية الفردية في اختيار الميول الجنسي وتحديدا الشذوذ أو ما يسمى اليوم بالمثلية فقد كانت كلفة أضرارها الصحية على المجتمع بحسب دراسة لمجلس أبحاث الأسرة الأمريكي في 2010 أكثر من 16 مليار دولار، لكن الضحية الأعظم هم الأطفال الذين يتم تبنيهم في «أسر مثلية»، وقد شهد على ذلك الضحيتان Roert Lopoez وBrittany Klein في كتابهما Jephthah›s Children.

أما الحرية الفردية في اختيار النوع البشري فتأثيرها المدمر المباشر تتحدث عنه قصص ضحايا التحول الجنسي التي يفردون لها صفحات الكتب والانترنت، إلا أن أثر هذه الحرية غير المباشر تعدى ضحاياها الأعلى نسبا في الانتحار، وتعدى ظلم دافعي الضرائب في بريطانيا، ليصل لظلم النساء في المنافسات الرياضية، وظلم الأطفال واللغة والعلم بعد أن صاروا تحت مطرقة منظمات الشذوذ وأيديولوجيات (التحول الجنسي)، فنجح الشواذ بموجب ذلك في تجريد جنس الإناث من تسمية (امرأة/نساء) امتثالا لضغط المعايير الحقوقية ومطالب المساواة، كما فعلت مؤسسة Edinburgh Science العلمية البريطانية في محتوى مهرجانها الدولي التعليمي لطلاب المدارس على الانترنت، حيث استبدلت مفردة امرأة بـ (البشر الذي يملك رحما)!!!

ولعل كثيرين شهدوا الهجوم الشرس على البروفسور الكندي جوردن بيترسون حين رفض التلاعب بالضمائر اللغوية لتتناسب وأهواء المتحولين جنسيا، وبين أثر ذلك الكبير على المجتمع.

إذن للحرية الفردية تكاليف تعيد مجددا للواجهة سؤال: لما يتكبد الجميع دفع ثمن سلوكيات البعض؟ وأين حق البعض في الحماية من تبعات سلوك الآخر؟ لتكون عبارة «ستيل ما ضر أحد» حقيقة فعلية؟

قضية الحرية الفردية هي حاليا موضع نقاش ومناظرة في الغرب الليبيرالي فيما يخص إعادة تعريف حدودها وحدود سلطة الحكومة.

شخصيا لطالما رددت عبارة أن لا مكان للحرية إلا في الغابة! ووجدت فعلا ما يؤيد فكرتي في كتاب عالم جديد شجاع للبريطاني ألدوس هكسلي، حيث يروي كيف أن أحدهم اعتبر الغابة خطرا لأنها تعلم أهل المدينة الحرية!

Rabeahmansoor@