زيد الفضيل

شهادة وفاة

السبت - 18 يوليو 2020

Sat - 18 Jul 2020

مشهد أليم حين ينظر المثقف لشهادة وفاة مرتقبة بحقه يجري تجهيزها، ولعمري فذلك من أصعب ما يمكن أن يعيشه أحدنا أيا كان جنسه ولونه وعرقه، وهو ما يتراءى لي وأنا أقرأ ما نشر حول تقرير لجنة الثقافة والإعلام والسياحة والآثار بمجلس الشورى برئاسة الدكتور محمد الحيزان تعليقا على التقرير السنوي الأول لوزارة الثقافة، الذي حوى صرخة مدوية أطلقها عضوا المجلس الموقر الدكتورة حنان الأحمدي والدكتورة نورة المري، اللتان صرختا بما يجيش في أنفاس كثير من المثقفين المنسيين ممن كافحوا وناضلوا واجتهدوا وعملوا من أجل تحقيق ما يرمون إليه من وعي وكمال معرفة، ودون أن يرتقب أحدهم أجرا ماديا مجزيا، أو ينتظر ترقية وظيفية، بل كان كل واحد منهم حفيا بمعرفته، مستبسلا لتحقيق ما يصبو إليه بكل جلد وإيمان.

إنهم أولئك الذين تشربوا ثقافتهم وأطر معرفتهم من ذلك الجيل المؤسس للحركة الثقافية بمفهومها الواسع، وهم الذين يتم نسيانهم اليوم بقصد أو بغير، ويتبلور توجه وفق ما يُفهم من مضمون التقرير الثقافي إلى إصدار شهادة وفاة بحق منجزهم ولمَّا يطوهم التراب، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟

لقد أشارت الدكتورة حنان في حديثها المنشور في الزميلة جريدة الرياض إلى لب إشكال واقعنا الثقافي حيث قالت «توقفت كثيرا عند الدراسة التي تبنتها الوزارة حول (واقع المؤسسات الثقافية غير الربحية) خاصة الأندية الأدبية والتي توصلت إلى نتيجة مثيرة للتساؤل، وهي أن تجربة هذه المؤسسات متواضعة، وأن أثرها الثقافي والاجتماعي غير معروف، وأن أحد الخيارات المطروحة بناء على هذه الدراسة هو حل الأندية الأدبية أو إلغاؤها! ومن خلال اطلاعي على نشاط بعض المؤسسات الثقافية غير الربحية، خاصة الأندية الأدبية، فإنني أدرك أن هناك أسبابا عديدة لتراجع أدائها في السنوات الأخيرة أغفلتها الدراسة، وأبرزها عدم وضوح مرجعيتها، إذ ظلت لسنوات تتأرجح بين وزارتي الإعلام والثقافة، كما أنها كانت تشكو ضعف الدعم المقدم لها من هذه الوزارات، ومن القيود البيروقراطية التي تفرضها عليها، إلى جانب غياب الرؤية الثقافية الموجهة في القطاع الثقافي ككل، علاوة على أن المناخ الثقافي في السابق، وقبل إعلان رؤية المملكة 2030، لم يكن داعما للحراك الإبداعي والثقافي، مما تسبب في دخول هذه المؤسسات في مواجهات عديدة من أجل الدفع بالحراك الثقافي، ودعم المثقفين الذين واجه بعضهم شتى أشكال الإقصاء والتصنيف».

واقع الحال لن أزيد على قولها، ولها كل الشكر والامتنان من جمهرة المثقفين، وأذكِّر نفسي وغيري بأن الحضارة لا تقوم على أصولها إلا بالتتابع والتراكم، وهو ما نشهده في عديد من الدول المتقدمة التي تحتفي بأي منجز تاريخي لها، وبالتالي أليس حريا بنا أن نحتفي بمنجزنا الثقافي الذي تأسس في أوائل السبعينات الميلادية، وشارك في ولادته رموز الحركة الثقافية من جيل الرواد، الذين لا تعرفهم تلك الشركات الاستشارية الأجنبية، ولا تدري قيمة ما صنعوه من وعي معرفي رسم خارطتنا الذهنية لعقود طويلة.

أليس حريا أن نحتفي بمؤسسة النادي الأدبي الثقافي ومؤسسة الجمعية السعودية للثقافة والفنون، اللتين توسعتا في البلاد شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، عبر فروع متعددة، وكانتا الرئة التي يتنفس من خلالها المثقفون، في وقت كان التيار الصحوي يعمل فيه على كتم أنفاسهم بالتعريض بهم ومهاجمتهم عبر منابره الدينية، ومع ذلك فقد صمدت المؤسستان وواجه أعضاؤهما والمنتمون إليهما كل صنوف التصنيف والتضييق بإرادة حديدية، واليوم وبدل أن نعزز من وجودهما، ونصحح أي تقصير فيهما، ونعمد إلى تعزيز هويتهما المؤسسية، نتوجه باستشارة عمياء من شركة استشارية أجنبية لا تعرف ولا تدري إلى تهميشهما، وصولا إلى إلغائهما للأسف الشديد.

إن مشهدنا الثقافي زاخر بالنماذج الرائدة والأعمال الكبيرة، وحافل بعديد من الشخصيات الخلاقة التي لم تحظ بفرصتها سابقا جراء ما كان يسود المشهد من ضعف إداري، إذ أشد ما نحتاجه اليوم هو اختيار الإداري المثقف القادر على تنظيم حركية المشهد دون إقصاء أو تجاهل لأحد، وبمهنية دقيقة، والأهم أن يكتنز في وجدانه، ويستوعب بوعي تاريخ وتيرة العمل الثقافي في وطننا بخاصة، ليتمكن من ربط عرى الحاضر بما سبق، فنحن أمة عريقة بجذورها، ولسنا منبتين من العدم. فهل إلى ذلك سبيل؟

zash113@