فهد عبدالله

إطار التسوية الذهنية

الاحد - 12 يوليو 2020

Sun - 12 Jul 2020

من التجارب الخلاقة في تطبيع العمليات الفكرية مع الهدوء والتمرس على رؤية الكون وما عند الآخرين بمنظورات مختلفة عن ألفة النظر المتراكمة أن تضع الأمر الذي تنظر إليه على الطاولة وتسلط عليه مختلف الآراء والمنظورات المتعددة، حتى لو كانت في منأى عن منطق طرائق النظر السابقة أو كانت تصدر من مكان بعيد فكريا لا تحبه أو لديك تحيزات ضده، شريطة النظر قدر المستطاع باعتدال والبحث عن وجهة النظر الأخرى التي ينظر بها الآخرون ولماذا يتشبثون بها.

هذه التجربة وتكرارها حتى لو كانت من أجل اللياقة الذهنية وتقوية عضلة الهدوء فحسب، ستخلف وراءها بنية ذهنية قوية في تحري الأصح من بين الأمور الصحيحة، وعدم التسرع في نعت الآراء بالخاطئة دون اكتمال الأحاجي والمعلومات والبراهين، فضلا عن التجاوز التدريجي لإحدى أصعب العمليات الداخلية، وهي الحياد النفسي والفكري تجاه ما على الطاولة من تلك المنظورات السابقة.

ويعزز هذه التجربة الخلاقة ما نراه ونلمسه في التفاعلات الموجودة بين الأطياف المختلفة من البشر، سواء من خلال ما نشاهده في الإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي وفي كثير من مجالس الحوار التي تغلفها الحدية في الانتماء للرأي، وكذلك الخطوات المتباطئة في الرجوع عن الخطأ والآراء الخاطئة، فضلا عن النسبية ذات الظلال الوارفة في أغلب المعارف والمعلومات والدراسات، والتي تحتم مسارا تجتمع فيه شروط لا للتبسيط ولا للتسطيح وشروط نعم للتعددية ونعم للتحري المتأني لصحة الرأي.

حتى في دوائر الاتفاق والتجانس، بمجرد أن تغوص قليلا في التفاصيل ستظهر لك الاختلافات التي لم تكن بالحسبان، وفي حال تمت تسويتها ستندلع أمامك اختلافات أخرى بمجرد الاستمرار في متابعة تلك التفاصيل، ولا نغفل عن أن عامل الزمن من أكبر العوامل الثابتة التي تجعل حتى تلك الأمور المتفق عليها قد يصيبها غمام الاختلاف، وهذا يعني أن الهدوء وعدم التسرع في رصف أو حرق المعطيات أو التأني في الوصول لنتائج نهائية حاسمة أو تنحية صفة الحسم في أغلب المنظورات هي إطار التسوية الذهنية التي تميل بالعقل بالتناغم مع طبيعته وطبيعة أغلب مدخلاته النسبية.

على الحيز الشخصي مثلا انظر قبل عشر سنوات وتأمل بعض القناعات والآراء التي تغيرت وكنت تعتقد مثلا صحتها آنذاك، وكيف تغيرت وتشكلت قناعات جديدة تجاهها أو أصبح لديك فيها مزيد من التفاصيل لم تكن موجودة سابقا مثلا، مع المرور بمثل هذه التجارب المتعددة ستجعل من السلوك الذهني ميالا لحالة تطبيع العلاقات مع الأشياء الجديدة وتدني سقف ممانعة التغيير لكل ما هو مختلف عما بالداخل، وسيتكون أيضا مع مرور الزمن تلك المنهجيات المرنة التي يمكن أن تتعرض للنمو والتطوير ويمكن أيضا من خلالها تفهم ما عند الآخر مهما كان مختلفا.

قد يتأرجح الفكر والعقل مع هذه العدسة الواسعة النظر، لكنها مع كثرة التجارب والتآلف مع هذه العادة الذهنية الجديدة ستزيد من رسوخ الأمور الثابتة، وسيكون التعامل حيويا مع ميادين التغيير الفسيحة التي بالتأكيد ستقفز بالنضج بطريقة المنحنى الأسي الذي تتضاعف فيه المقادير بشكل مذهل، وسيكون إطار التسوية الذهنية هو مدار التفكر والتدبر والوجود الحقيقي لهذا الإنسان الفريد.

fahdabdullahz@