عادل الزهراني

حجر كوفيد-19 ومنافع فرض استدامة «مجتمع الاكتفاء الذاتي » (معماريا وحضريا وتقنيا.. نحو حي المستقبل وتقنياته)

السبت - 06 يونيو 2020

Sat - 06 Jun 2020

ما الذي يحدث؟

منذ أن أعلنت منظمة الصحة العالمية جائحة كوفيد 19، اضطرت الدول إلى اعتماد تدابير العزل الاجتماعي بسرعة كبيرة.

وفي ضوء التفشي، اضطرت الكثير من الدول إلى مرحلة ما بعد العزل الاجتماعي من خلال فرض الحجر المنزلي المتمثل في عدم الخروج من المنزل حتى يزول هذا الوضع برمته. وبناء عليه أوضحت السلطات أن سكان الأحياء يستطيعون شراء «الأساسيات» اليومية داخل الحي، ويمكنهم التحرك فحسب بناء على تصاريح حكومية أو لأغراض الطوارئ وبأوقات محدودة.

وقد نصحت حكومتنا الرشيدة بإصدار أوامر مناسبة للسماح استثنائيا بتمكين المناطق التي تخضع للإغلاق من الخدمات «الأساسية» للعمل وبخدمات التوصيل. وقد تتوسع القائمة التي تشمل ذلك اعتمادا على تقييم متواصل للوضع. وفيما يلي توصيف للمشمولات الـ «أساسية» التي نقصدها:

هناك عدد معين من السلع «الأساسية» متفق عليها عالميا ومقرر توفيرها وقت الأزمات، ففي الولايات المتحدة مثلا تم سن قانون السلع الأساسية لعام 1955 لضمان سهولة توفرها للمستهلكين وحمايتهم من الاستغلال التجاري أو شُح المصادر - كالأدوية الأساسية والسماد الزراعي (عضوي وغير عضوي) والمواد الغذائية اليومية والبقوليات والزيوت الصالحة للأكل والمنتجات البترولية وبذور المحاصيل الغذائية والبذور الزيتية وبذور الفواكه والخضروات وبذور علف الماشية، إذن ما هي الاستراتيجية الأفضل لتحقيق أكثر ما يمكن من «الاكتفاء الذاتي» أثناء أزمات جائحات الأوبئة الفتاكة التي تجتاح عالمنا وتنهك البشر وتبيد الملايين كالطاعون والملاريا والجدري والأنفلونزا الإسبانية والفيروسات التاجية التي آخر أجيالها «كوفيد-19 كورونا» التي ألمَّت بنا مؤخرا، والتي تحكُمنا وتهدِّد البشر ويضاف إليها الحروب ودمارها؟

ما هي إجراءات دول العالم المتقدم؟

تعد وكالات أبحاث الفضاء الأمريكية والكندية وبعض الحكومات والمنظمات في أوروبا وأستراليا واليابان المزارع الخاصة بالمنازل وحدائق المجتمع داخل الأحياء السكنية وسيلة رائعة لممارسة الاكتفاء الذاتي في أي وقت من العام، وتحت أي ظرف من ظروف الأزمات. فخلال الحجر المنزلي الصحي، يمكن أن يكون لمثل هذا الصنيع فائدة كبيرة، خاصة بعد تيسير عملية تخزين منتجات «مزرعة المنزل» عبر مخازن وأرفف تخصص للغرض، بالفعل استراتيجية مذهلة أن يكون لدينا نمط حياة يمثل فيه «الاكتفاء الذاتي» حصة الأسد.

إذن نحن في حاجة إلى أحياء سكنية ذات «اكتفاء ذاتي» تقنيا وسلوكيا – للتنويه – توفر الخدمات داخل الحي على مسافات من المشي مثل البقالة والصيدلية والمخبز ومحل الخضرة والفاكهة.. إلخ، يسمى بلغة التخطيط الحضري «الحي المتكامل أو الحي النموذجي»، والمسميات هنا متعددة وجميعها استراتيجيات رائعة ونحن في حاجتها في مدننا السعودية.

ولكن هذه المقالة تتطرق إلى ما بعد «المتكامل» من خلال تناول مفهوم الإبداع والابتكار في صناعة المدن المعاصرة والفعالة والمنتجة ذات الأحياء السكنية المفعمة بالحياة والـ «مكتفية ذاتيا»، والتي تستحق تبعا لذلك مسمى مدن القرن الـ 21 المتطورة.

أثبتت العديد من تجارب المدن الناجحة حول العالم أن حياة الناس اليومية بمفهوم القرن الحادي والعشرين والذي يليه تقودها بامتياز ثلاثة تخصصات محورية، مُكمِّلة بعضها بعضا، وهي على التوالي: التصميم الحضري المستدام Sustainable Urbanism، والابتكار المعماري Innovative Architecture، والتقنية الذكية المتقدمة Smart Technology، تخصصات تدعم طموح رؤية التصدي للتحديات البيئية والاستدامة وزيادة الإنتاجية والرفاهية الاجتماعية والاقتصادية.

وهنا نؤكد على الارتباط الوثيق لجودة حياة الناس اليومية بـ «جودة» النسيج الحضري الذي لم يعد فقط ثلاثي الأبعاد، بل رباعي الأبعاد ومكتفيا بمنطق المجاورة النفعية للحياة اليومية، مما يؤثر بالإيجاب في الاقتصاد الوطني والنظام البيئي والمرتبط بالصحة العامة. وهذا أمر لا يتحقق إلا إذا اعتبرنا أن رفاهية الإنسان هي «المحرك» الحضري لجودة حياته اليومية من حيث المكان الذي يعيش فيه، والذي بدونه لا تستوي أية غاية.

في هذه المقالة سأعرض إحدى التجارب العالمية المتميزة في الابتكار المعماري والاستدامة الحضرية والتقنية الذكية المتقدمة.

تقنيات لا حصر لها

تخيلوا أعزائي القراء أنكم تعيشون في منازلكم، وأنها تقع في إحدى ضواحي مدينة جدة أو الرياض أو الخبر، وفي فناء «حوش» المنزل بجوار نافذة معيشة حديقة زراعية داخلية أو «مزرعة داخلية مصغرة» أو حديقة منزلية زراعية موسمية تزرعون فيها كل ما ترغبون في أكله من الخضار والفاكهة. هذا الحي عزيزي القارئ بلغة التصميم الحضري المستدام يسمى «الحي المكتفي ذاتيا» أو «حي الاكتفاء الذاتي»، حيث يزرع سكانه منتجات السلع الأساسية للتغذية الخاصة بهم، ولا حاجة لهم إلى التسوق خارج الحي للفاكهة والخضروات والبقوليات. وتصوروا أيضا أن لديكم جزءا من الفناء الصغير به حظيرة لعدد من الماشية ومنتجاتها. ويأتي السؤال هنا: ثم ماذا! وما هي استراتيجية الاكتفاء الذاتي التي تتيح فعلا إنتاج منتجات زراعية وحيوانية أساسية؟

وتأتي هنا التجربة المتراكمة لكثير من التخصصات الدقيقة المعقدة المتعلقة بالعلوم الهندسية والأنظمة البيئية – وهي صناعة «مصدر الطاقة» الخاص بالزراعة من خلال معالجة النفايات في الدائرة المغلقة للفناء، حيث إن إضافة النفايات المنزلية العضوية إلى سماد المواشي العضوي لتخصيب نظام التربة سيلعب دورا هاما في إنتاج وتنوع الغذاء النباتي. فمن خلال استخدام الأساليب الأكثر تقدما لزراعة الغذاء كما هو في مدن هولندا وكندا والنمسا واليابان وغيرهم، مزيج الأيروبونيك والأكوابونيكس والزراعة الدائمة العضوية عالية الغلة سيساعد في إنتاجية الحي السكني ويجنبه ضعف الغذاء الذي تنتجه مزرعة تقليدية من نفس الحجم وبموارد أقل.

وعلى سبيل المثال، يمكن أن ينتج نظام «أكوابونيك» أو ما يسمي بنظام تقنية الزراعة المائية المركّبة عشرة أضعاف إنتاجه على المساحة نفسها من الأرض بمعدل 90% استهلاك ماء أقل، وذلك بناء على دراسة المركز الزراعي بالولايات المتحدة الأمريكية.

تجارب عالمية سباقة

إذن فتصميم الأحياء السكنية ذات «الاستدامة النفعية والاكتفاء الذاتي» على هذه الشاكلة يُنتظر منه توفير مزيد من إنتاج أطنان الأغذية العضوية كل عام من خضروات وفواكه وبقوليات وبيض ودجاج ومنتجات الألبان الحيوانية الصغيرة والبروتين. وتنمو وتُنتَج هذه المواد العضوية والبيولوجية البحتة باستمرار وعلى طول العام في أنظمة الحدائق السكنية. وتُعتبر صادقة في هذا السياق مجمل الدراسات العلمية والتصاميم المعمارية ومظلة المشاريع الحضرية التي تم تنفيذها عن طريق شركة (ريغان) للتطوير العقاري الأمريكية: شركة سررت بزيارتها قبل 7 سنوات بولاية كاليفورنيا، وتهدف إلى بناء مجمعات سكنية صغيرة قائمة بذاتها ومن المتوقع أن تكتمل أولى مشاريعها في مدينة ألمير بهولندا بانتهاء العام 2020م.

ومن ضمن الاستراتيجيات أيضا يَرِدُ نظام داخل الأحياء، يكمن في تخزين مياه الأمطار ومعالجة المياه الرمادية وتغذيتها لأنظمة الزراعة المائية داخل المنازل، يقول الرئيس التنفيذي لشركة ريغن (جيمس إرليتش) «نحن نتطلع حقا إلى نطاق عالمي.. نحن نعيد تعريف التطوير العقاري السكني من خلال إنشاء هذه الأحياء التجديدية، ونعيد النظر في قطع الأراضي الزراعية الجديدة حيث يمكننا إنتاج مزيد من الأغذية العضوية، ومزيد من المياه النظيفة المُعَالَجة، والطاقة المتجددة النظيفة، وكذلك التخفيف من النفايات لزراعة الغذاء العضوي أو الزراعة المستدامة».

تبني ريغن نسخا مصغرة من 35 وحدة سكنية في السويد والنرويج والدنمارك وألمانيا، كما أنها تخطط لتوسع مشاريعها في كل مكان. وفي تصريح ثان لرئيس مجلس إدارتها «نحن نتطلع حقا إلى البدء كقرى أقرب إلى كونها قرى بيئية مستدامة.. هذه هي الفكرة. لذلك سنخرج قليلا من شمال أوروبا لدراسة تكييف النظام الذاتي مع المناخات القاحلة مثل الشرق الأوسط.. نحن نتعامل مع أصعب منطقة مناخية على نطاق عالمي مثل الريف الهندي وأفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى، حيث نعلم أن عدد السكان سيزداد وستنتقل أيضا إلى الطبقة الوسطى. إذا كان الجميع في الهند وأفريقيا يريدون النوع نفسه من الضواحي التي قمنا ببنائها حتى الآن، لن يتمكن الكوكب من الوصول إليها». وهنا قد لا أتفق تماما مع كامل وجهة النظر، ولكن أعتقد أن نهاية المطاف هي إكرام الإنسان باستراتيجية الاكتفاء ذاتي.

وفي الختام تصريح مثير للاهتمام أيضا لـ (إرليك) الذي يعمل كرجل أعمال وممول للمشاريع الحديثة وأكاديمي بجامعة ستانفورد وخبير تقني لديها، والذي يعزز مفهوم مستوحى من تقرير الأمم المتحدة للعام 2013 والذي دعا إلى إنشاء مجتمعات مكتفية ذاتيا.

في الختام أعزائي القراء، الموضوع ذو شجون، خاصة لمن تعدى مرحلة التخصص ووصل لمرحلة الشغف، فقرية (ألمير) مثلا التي من المتوقع أن يكتمل بناؤها بانتهاء عام 2020، من المرجح أن يزرع سكانها نحو نصف الطعام من الخضروات والفواكه والبقوليات والبيض والدجاج ومنتجات الألبان الحيوانية الصغيرة والبروتين الذي يأكله سكانها، طبعا لن تزرع هنا القهوة والشوكولاتة. كما ستغذي هذه القرية الطاقة المحلية بشبكتها، ولكن في مواقع محدودة، وهذا هو بالضبط ما يسمى بمفهوم «صناعة المجتمع المكتفي ذاتيا» بالكامل.

@dradelzahrani