سالم الكتبي

ناقلات النفط الإيرانية وهزيمة ترمب

الاحد - 31 مايو 2020

Sun - 31 May 2020

أستغرب كثيرا مما يكتبه البعض مهللا لملالي إيران ومهنئا إياهم بانتصار مزعوم على عقوبات وحصار إدارة الرئيس ترمب من خلال تحديها في مياه الكاريبي، وإرسال ناقلات نفط محملة بالبنزين لدعم موقف الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو!

منبع الاستغراب أنني تابعت وصول ناقلات النفط الإيرانية وقد حلقت فوقها مقاتلات أمريكية الصنع تحمل علم فنزويلا، وأن مسار رحلة الناقلات الطويل في المياه الدولية كان يمكن أن يكون مسرحا لأي عمليات استخباراتية سرية أو عسكرية مباشرة لتعطيل الناقلات، وبالتالي فالحديث عن عجز أمريكي أمام التحدي الإيراني ليس واقعيا، ويجب أن لا تدفع التمنيات بعض الأقلام لترويج مزاعم لا أساس حقيقيا لها.

يعرف كل من له علاقة بالإعلام والسياسة في عالمنا العربي أن هناك «لوبي» إعلامي داعم للملالي في عديد من وسائل الإعلام العربية التي تصدر في الداخل والخارج (في أوروبا وغيرها)، وهذا «اللوبي» ينقسم إلى فريقين، أحدهما من أصحاب الشعارات الذين انساقوا وراء فكرة خاوية يروج لها النظام الإيراني، بشأن قيادته لتيار الممانعة ومحور المقاومة والرفض والتصدي للنفوذ الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، وهذا الفريق يتحرك وفق منطق التحليل بالتمني، ويحاول النفخ في كل سلوك إيراني والتهويل من نتائجه بما يتفق مع حجم ومستوى كراهيته للولايات المتحدة وسياساتها في المنطقة.

والفريق الآخر فريق مؤدلج موال لإيران طائفيا وتابع لها تمويليا بشكل واضح، وهذا الفريق يتلقى أوامره وتعليماته من طهران، ويعمل وفق أجندتها ويروج لسياساتها على حساب انتمائه الهوياتي القومي العربي.

وبين هذا وذاك هناك من يقرأ الأحداث المتسارعة في العلاقات الإيرانية الأمريكية وفق رؤية سطحية لا تأخذ بالاعتبار مجمل تعقيدات بيئة هذه العلاقات وأبعادها الاستراتيجية المختلفة، وما يعتريها من شد وجذب وصراع يدور أغلبه في الظاهر وتفاهمات تدور جميعها من

وراء الكواليس وعبر قنوات بالغة السرية.

وفي ضوء ما سبق، يمكن فهم منطلقات كثير من جوانب الدعاية الزائفة لما يثار بشأن التحدي الإيراني للولايات المتحدة في عمقها الاستراتيجي الأقرب وحديقتها الخلفية وغير ذلك، والحقيقة أنه لا ناقلات النفط الإيراني قد كسرت الحظر الذي يفرضه الرئيس ترمب على فنزويلا، ولا الرئيس ترمب يشعر بالهزيمة والعجز في مواجهة التحدي الإيراني، لسبب بسيط هو أن شحنات النفط الإيرانية لن تحل المشاكل التي تحاصر الرئيس الفنزويلي، الذي أغرق بلاده في أزمة سياسية واقتصادية عميقة منذ سنوات، حيث بلغ معدل التضخم نحو 800 ألف في % العام الماضي، بينما فرّ نحو 4.8 ملايين شخص من البلاد.

وفوق ما سبق، فإنني أعتقد أن من يرى في ترك حرية التحرك لهذه الناقلات كسرا للهيمنة الأمريكية البحرية الدولية فهو لم يزل يتعامل وفق منطق الربع الأخير من القرن العشرين، وليس وفق قواعد اللعبة الحالية، وعليه أن يتذكر جيدا أن الولايات المتحدة سبق أن سمحت بتصرفات كثيرة من هذا النوع وآخرها ناقلة النفط التي كانت متوجهة إلى سوريا واحتجزتها السلطات البريطانية في جبل طارق، ولم تعترضها القطع البحرية الأمريكية خلال رحلتها التي يمكن خلالها احتجازها بسهولة من جانب الولايات المتحدة التي تفادت تعريض نفسها لحرج استراتيجي في حال الرد الإيراني باحتجاز أي قطعة بحرية أمريكية في مياه الخليج العربي، مما يضع الإدارة الأمريكية في مواجهة خيار حتمي وحيد، وهو اتخاذ قرار بعملية عسكرية لتحرير القطعة البحرية المحتجزة لدى الجانب الإيراني، لأن أي تفاوض أو صفقة في هذا الشأن كانت تعني ببساطة انهيار استراتيجية العقوبات الاقتصادية الصارمة التي يطبقها الرئيس ترمب لإخضاع الملالي وإجبارهم على الجلوس من أجل التفاوض.

قناعتي أن مناورات ومراوغات الملالي تروق للرئيس ترمب الشغوف بعقد الصفقات، حيث يدرك أن مثل هذه المراوغات هي المدخل لتحسين المواقف التفاوضية تمهيدا للتفاوض في مراحل لاحقة، وأن هناك مباراة استراتيجية تجري الآن يجري فيها كل طرف حسابات دقيقة لما يحصل عليه وما يخسره من نقاط، وبالتالي فهو يشعر بأن كل ما يحدث يصب في النهاية في خانة تحقيق الأهداف الاستراتيجية الأمريكية من محاصرة النظام الإيراني، الذي فشل في فك طوق الحصار رغم سلسلة إجراءات خفض الالتزام ببنود الاتفاق النووي، والتي وصلت إلى ما يعرف بالمرحلة الخامسة والأخيرة، حيث قرر الملالي مواصلة تخصيب اليورانيوم من دون قيود، وواصل الإعلان عن إطلاق صواريخ بعيدة المدى قادرة على حمل رؤوس نووية، كما دفع الملالي ثمنا بالغا لممارساته بمقتل الجنرال قاسم سليماني القائد الأبرز في تاريخ الحرس الثوري الإيراني، ومهندس الأجندة التوسعية الطائفية الإيرانية في الإقليم، في قرار يصعب فهم دوافعه بمعزل عن الانتقام الأمريكي لإسقاط إيران طائرة الاستطلاع «RQ4» بصاروخ أطلقه الحرس الثوري.

ويدرك الباحثون والخبراء الاستراتيجيون أن الولايات المتحدة لا تريد خوض صراعات عسكرية لا مع إيران ولا مع غيرها في المرحلة الراهنة، وحتى قبل نشوب أزمة تفشي جائحة «كورونا»، بل يمكن الادعاء بأن هناك نوعا من غض الطرف الأمريكي عن الممارسات الإيرانية في الشرق الأوسط من أجل تحقيق أهداف استراتيجية أمريكية أخرى في المنطقة، وبالتالي فالمسألة لا علاقة لها بالتحدي ولا الانتصار ولا غير ذلك من الشعارات الوهمية التي يرددها البعض في الإعلام العربي، والأفضل أن نقرأ الأحداث من منظور واقعي حتى لا نخدع ولا ننساق وراء الشعارات، ونستوعب ما يدور من حولنا بشكل واقعي يسهم في بناء وعي يحقق مصالح شعوبنا العربية.

salemalketbiar@