شاهر النهاري

قفزات السعودية بين جائحتين

الاثنين - 30 مارس 2020

Mon - 30 Mar 2020

قبل نحو ثمانية عقود من الزمان، اجتاح العالم وباء الجدري، في فترة شح المعلومة الصحية، ونقص الإمكانات، والدولة السعودية ما تزال في بدايات تكوينها، وكان والدي رجلا من رجالات إمارة أبها، ووالدتي عروسا يعانق صباها خضار الأرض وزهور الربيع.

مجتمعات قبائل قروية زراعية، غافلها ذلك الداء الشرس الغامض، دون توفر للعلاج والرعاية والعزل الصحي، ففتك الداء بأعداد عظيمة من المواطنين، تبعا لما جرى في بقية أطراف العالم، مما اضطر بعض الأهالي لأخذ مرضاهم إلى الكهوف القريبة في عزل وحجر قسري، لمنع انتقال العدوى للأصحاء.

كهوف هيؤوا فيها أمكنة لنوم المصابين، وزودوهم بالطعام والشراب والأدوية الشعبية، وظلوا يطلون عليهم من على البعد، للاطمئنان على تطورات حالاتهم وتلبية احتياجاتهم، وكم يشتد الحزن ذات صباح حين لا يسمعون صوت مريض، دليلا على انتقاله إلى رحمة ربه.

والدتي الشابة ظهرت عليها أعراض العدوى بالمرض، حمى شديدة وحمرة في لون وجهها وبشرتها أنتجت البثور الكبيرة، فتظل بعمرها الغض تتألم وتبكي، وتغطي وجهها خجلا، خاصة مع تضخم الحبوب وتقرحها، وتحولها إلى اللون الغامق. والدي كان محبا لزوجته، فظل يُهوّن عليها المأساة ويطمئنها ويرعاها بنفسه، خاصة أن الأغلبية قد ابتعدوا عنهما خشية العدوى.

وأظهر المجتمع الأبهاوي تواده وتراحمه بتزويد البيت المنكوب بالقهوة والقشر والبر والشعير والعسل والسمن والتمر والزبيب والفواكه والخضروات، مع حرص والدي على تتبع خبرة كبار المجتمع في طرق الوقاية لمساعدة المريضة على تخطي الأزمة القاتلة، علاجات شعبية وابتهالات، وبعد كل استحمام يتم حرق مستلزمات المريضة وملابسها الملوثة.

أيام كرب عسيرة مرت عليهما بين خوف ورجاء، حتى هدأت الأعراض وجفت البثور وتساقطت قشورها، لتدخل رحمها الله في أطوار بكاء وحسرة، خشية ألا يتقبلها زوجها بآثار ما تركه الجدري على وجهها من علامات دائمة، ولكنه بمحبته ووعيه زاد من طمأنينتها وثقتها.

وتستعيد المريضة كامل عافيتها وتغادر الفراش، بإيمان وعنفوان وقصة حب تُحكى، لرباط زواج وفيّ عرف كيف يحتوي الكارثة، ويعبر كرب المأساة بفدائية الزوج وتعريض حياته للموت، حتى بلغا سوية مسار حياة سعيدة طويلة، أنجبا خلالها عشرة أبناء وبنات، كنت أنا آخر عنقودها، رغم أن سبيلي قد تأخر كثيرا، لأصل بعد رحيل والدي الشهيد في حرب جبل القَهر (زهوان)، التي كانت آخر عمليات قوات الملك عبدالعزيز العسكرية، الساعية لتثبيت حدود وأركان المملكة، بشكل نهائي.

رحم الله أهل ذلك الزمان، شعبا وحكومة سعودية عظيمة، فقد تكاتفوا وتغلبوا حينها على تلك الكارثة، الشبيهة بجائحة الكورونا التي تطوي عالمنا اليوم، ونحن نواجهها بيقين وصمود، رغم الفروق الشاسعة بين الأمس واليوم، بما استجد في سعوديتنا الجديدة من قفزات سيطرة وتمكن ضوئية، وثقافة وتعليم ورخاء ومعالجة ومستشفيات متطورة وترتيبات عصرية وتسهيلات، وأجهزة ذكية ونظم كشف متقدمة، ووسائل واستعدادات وصناعات وتجهيزات، وقوانين صارمة للأمن والحجر الصحي، وحظر للتجوال، والتحكم بتمكن في جميع الظروف السياسية والاقتصادية والصحية، بسعي حثيث لرفع قيمة الإنسان السعودي لدرجات تبهر أعين العالم برؤية اليوم، وقدرة كياننا السعودي العظيم على الحضور في كل الظروف، ومواجهة وصد أي تجاوزات أو تعديات خبيثة على وطننا ومقدراتنا بكل تمكن واقتدار.

Shaheralnahari@