بندر الزهراني

جعجعة الندوات وطحن المشاعر!

السبت - 22 فبراير 2020

Sat - 22 Feb 2020

في الآونة الأخيرة، على المستوى الأكاديمي أصبحنا نسمع كلمة «مواءمة» تتردد كثيرا على ألسنة بعض المسؤولين في الإدارات الأكاديمية في جامعاتنا المحلية، تماما كما كنا في فترة من الفترات نسمع بعض الكلمات النادرة والغريبة تأتي حشوا في أحاديث بعض المسؤولين ممن يحاول الظهور بمظهر الفيلسوف المثقف والمتحدث اللبق، ولو أن المشكلة كانت في أسلوب الحديث ومحاولات الظهور فقط، لما تطرقنا لهذا الموضوع أبدا، ولتجاوزناه كما تجاوزنا كثيرا من حالات الجعجعة العابرة والنفسيات السايكوباثية، ولكن لأن الموضوعات التي تدخل تحت فكر «المواءمة» هي موضوعات مهمة، وتمس كبد الحركة التعليمية الجامعية، وكان لا بد من مناقشتها والحديث عنها.

ومن الجعجعات التي جعجعت بها الهيئة الاستشارية الدولية في إحدى الجامعات المحلية «تعزيز مخرجات الجامعة لمواءمة سوق العمل»، وليتهم جعجعوا بأصوات وطنية! فالهيئة نفسها لا تعرف عن أي سوق تتحدث، بل إنها لا تعرف حالة التعليم الجامعي التي هي مستشارة لتطويره، ولو أنهم صدقوا فيما قالوا لأتوا بالمادة الحقيقية لنجاح مثل هذه المؤتمرات الداعية لربط التعليم الجامعي بسوق العمل المحلي.

ولو تساءلنا عن مادة النجاح التي غابت عن مؤتمراتهم وندواتهم، لوجدنا أن الجواب قطعا لا يحتاج لفطنة آينشتاين، ولا لذكاء فردريك جاوس! المادة الحقيقية لجسر الهوة بين مخرجات الجامعات وسوق العمل هم طلاب الجامعة أنفسهم، لا المستشار الدولي، ولا الوكيل المتقاعد! فكلاهما لا يخدمان إلا المصالح الشخصية لهما، والخاسر الأكبر هو الشاب المتخرج، وخزينة الجامعة!

حتى لا نقع فيما تقع فيه الإدارات الأكاديمية، دعونا نقول بكل بساطة: إذا أردنا أن نوائم بين شيئين، علينا أولا أن نعرف أسباب الخلاف وأوجه الاختلاف بينهما، ومن ثم نعمل على تذليل السبل واستئصال بؤر التضاد، حتى يحدث التقارب والانسجام، وفيما بعد يكون الوئام، ولا نغفل عن البحث والتأمل في أوجه التشابه بينهما ونقط الالتقاء، بل نعمل على تعزيزها وتدعيمها، وهذا الأمر للأسف لم يحدث في حالة مواءمة مخرجات التعليم وسوق العمل، فنحن أصلا لا نعرف هوية السوق المقصودة، لعلها لا ترقى لأن تكون وعاء لمخرجات جامعاتنا! أو ربما العكس، ونحن لا نعلم يقينا من يبحث عن مواءمة الآخر! أهي السوق أم الجامعات؟

‏كنت مشاركا مع مجموعة من الزملاء في مناقشة توصيات أحد اجتماعات المواءمة هذه، وكان الكل يتحدث بحرارة منقطعة النظير عن موضوعات التدريب، وتغيير المناهج وإغلاق بعض التخصصات الجامعية، ودمج أو افتتاح تخصصات أخرى، بغية تجهيز الطلاب والطالبات للولوج في سوق العمل، وذهب البعض أبعد من ذلك؛ إذ رأوا مخاطبة الشركات ورجال الأعمال، وسؤالهم عن التخصصات التي يرون أنها مهمة من وجهة نظرهم.

وكنت الوحيد من بينهم أقول: الجامعات ليست مراكز تدريب، ولا شركات توظيف، الجامعات صروح للعلم، ومحاضن تكوين العلماء والفلاسفة والمفكرين، ولا أظن أنني كنت مخطئا، بل أعتقد أن الخطأ فيمن يرسل التوجيهات ليغير هكذا بعصاه السحرية واقعا مرتبطا بمجموعة من العوامل لا تنفك عن بعضها، كالأمشاج ترابطا وتلاحما.

ورغم أن البعض قد يرى أن وظائف المستقبل ستنحصر في الوظائف التكنولوجية والذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات، وما عداها لن يكون له قيمة ولا شأن، فإن هذا يظل تصورا، يوافق الحقيقة إن وافقها في جانب واحد، ويخالفها في جوانب كثيرة، ولا يمكن لهذا أن يلغي التخصصات العلمية الأخرى، ولا الحرف والمهن، إذ لا يمكن للآلة وحدها أن تجري عملية جراحية دون وجود طبيب متمكن، ولا أن تكتشف نظرية رياضية دون عقل بشري جبار، فالآلة تحفظ ما نقوله أو نكتبه لها، ولكنها لا تبدع أو تبتكر من ذاتها، وحتى لو كان هذا المشهد يبين حال سوق العمل في المستقبل لا ينبغي أن نكلف الجامعات خيالا قد يشغلها عن الواقع المتخم بندرة الفرص الوظيفية!

أنا لست ضد المؤتمرات الأكاديمية، والندوات العلمية، والحوارات المفتوحة التي من شأنها تقديم الحلول المتاحة، والبدائل الممكنة، ولا أتصور أن أحدا يقف ضدها، ولكننا ضد الحوارات الشكلية المترفة التي لا فائدة منها، ولا أثر لها، فقد شبعنا مواءمات، وشبع العاطل جعجعة وهو لا يرى طحنا إلا لمشاعره وأحلامه وطموحاته، ولسان حاله بعد كل هذه السنوات من الجد والاجتهاد والمثابرة يقول: لقد طوّفت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب، فإما أن تشركوا الطلاب في حواراتكم من أول يوم يدخلون فيه جامعاتكم، وإما أن تتوقفوا عن المتاجرة الكلامية بقضاياهم!

drbmaz@