عبدالله المزهر

ضجيج الفراغ..!

سنابل موقوتة
سنابل موقوتة

الاحد - 16 فبراير 2020

Sun - 16 Feb 2020

يقول الدكتور سعيد السريحي في لقاء متلفز معلقا على السخرية من المثقفين «لم يكن لمثل هذا الصوت الذي يجهل - ويجهل أنه يجهل - أن يكون متداولا لولا مواقع التواصل التي أتاحت للناس أن تتباهى بجهلها، ولمن لم يكن يجد كرسيا لكي يصغي أن يتحدث». أ.ه.

والحقيقة في التعليق على حديث الدكتور لها وجهان، الأول يبدو مختلفا مع وجهة نظره، فمواقع التواصل على علاتها كسرت احتكار المنابر الإعلامية، والتي نعلم ويعلم الدكتور أنها كانت حكرا على أسماء بعينها كشفت مواقع التواصل مدى هشاشتها وزيفها، وهذه حسنة لو لم يكن لمواقع التواصل إلا هي لكفتها وزادت عن حاجتها من الحسنات.

وفي مواقع التواصل ظهرت أصوات وأسماء لم يكن لها أن تظهر إلى العلن لو أن المنابر ما زالت ترفل في قيودها العتيقة. وكان كثير من الذين لا يجدون كراسي لكي يصغوا أحق ممن يمسك بزمام المنابر في تلك الحقبة.

ثم إن وسائل التواصل، خاصة في عالمنا العربي، رفعت سقف الحرية الذي لم يكن يمكن التحرك تحته إلا زحفا، صحيح أن هذا السقف ما زال أقل من الارتفاع المخصص للكائنات البشرية، لكنه لا يقارن بسقف ما قبل وسائل التواصل.

وهذه الميزة التي أتاحت للكل أن يعبر عن نفسه ويتحدث، هي بعينها أحد أبرز عيوب وسائل التواصل، وهذا الوجه الآخر في حقيقة ما قاله الدكتور السريحي.

وكما كسرت وسائل التواصل احتكار المعرفة فإنها أيضا كسرت احتكار الجهل، كان ضرر الجاهل في محيطة ودائرته القريبة، أما الآن فإن بإمكانه أن ينشر جهله، وأصبح ضرره يتعدى دائرة معارفه الضيقة إلى الثقلين.

وكما أتاحت أن يكون لصاحب الكلمة والمعرفة والثقافة الحقة منبر حر ـ أو شبه حر ـ يقول فيه ما يشاء متى يشاء، فإنها أتاحت للتافه أيضا أن يخطب في الناس متى شاء ويعلمهم أمور دينهم ودنياهم.

ولا بد أنكم تعرفون مشهورا واحدا على الأقل من مشاهير وشهيرات وسائل التواصل بدأت قصته بمقطع ينتشر له وهو يضحك أو يبكي أو يلعب بأصابعه في أنفه أو يشتم، ثم تابعه الناس ليستزيدوا من علمه الغزير، ثم اقتنع أنه ضالة العالم وهادي الحيارى، وبدأ يسدي النصائح في الحياة والاقتصاد والسياسة والفن والأدب، ويحل ضيفا على المؤسسات الحكومية والخاصة، ويفتتح المشروعات ويعلن عنها ثم يصبح مؤثرا وممثلا للوطن في المحافل الدولية. كل المسيرة السابقة يمكن أن تحدث في شهر واحد فقط، أغلب هؤلاء لم يقرأ في حياته كتابا واحدا، بما في ذلك كتب المناهج الدراسية. وكثير من هؤلاء المشاهير مشهور بأنه مشهور، أي إن صنعته الوحيدة هي أنه مشهور ويعرفه الناس، لا شيء أكثر من ذلك ولا أقل.

وهذه مشكلة خلقها الناس في مجملهم وليس المشهور، لأنهم في الغالب يبحثون عن التفاهة ويستسيغونها أكثر من أي شيء آخر، يوجد على مواقع التواصل أدباء وشعراء ومثقفون وعلماء، ومهتمون بأمور يتخصصون فيها، ويعبرون عنها ويكتبون فيها ولها ولا يهتمون بغيرها، لكنهم مع ذلك لا يسلمون من الأذى والسخرية من اهتماماتهم، ومن مواجهة السؤال المستفز: طيب أنا وش استفدت؟!

وعلى أي حال..

هذا واقع لن يتغير لمجرد أننا نشتمه، ربما نحتاج بعض الوقت لكي نتكيف مع هذا الواقع الذي يبدو أنه يستحيل تغييره، ولست ضد أن يعبر التافه عن نفسه، وأن يتحدث ويثرثر كيفما يشاء، لكن فكرة أن يصبح التافه قدوة تبدو فكرة مخيفة بعض الشيء.

معايير الأشياء تتغير لدرجة أن كثيرا من الخلق أصبح يطرب للإزعاج الذي تحدثه العلب الفارغة.

agrni@