بندر الزهراني

الأبحاث التطويرية مخارج اضطرارية!

الجمعة - 24 يناير 2020

Fri - 24 Jan 2020

أصبح الكشف عن التجاوزات والمخالفات الأكاديمية في أيامنا هذه أمرا ليس بالصعب، ليس لأنه شيء ظاهر، ويسهل اكتشاف أمره، أو تتبع طرقه وضبط أساليبه، لا، ولكن لأن المخالف بلغ مأمنه، فتعاظمت حالته النرجسية، واستقرت عاطفته الانفعالية، وأصبح يتصرف كما لو كان رمزا خرافيا، لا تلحقه الظنون ولا تمسه الشكوك، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلف أذنيه، فهو في قرارة نفسه فوق الشبهات، وفوق الأخلاق، وفوق كل القواعد واللوائح التنظيمية‪!‬

ولعل من صور التجاوز الأكاديمي الأكثر خطرا وأثرا في الإدارات الأكاديمية ما يعرف بالأبحاث التطويرية، وهي نوع من الأبحاث الهابطة موضوعا وجهدا والباهظة تكلفة وبهرجة، يمكن وصفها بالأبحاث السطحية علميا، التي لا قيمة لها إذا ما عدت الأبحاث الأصيلة استنباطا واستشهادا، وعادة يشترك في القيام بها بعض وكلاء الجامعات المحلية مع مستشاريهم أو مع من يدور في فلكهم ويتدثر بمدحهم أو يكثر من التقرب إليهم والثناء عليهم، وجرت العادة أن يقوم بأدق تفاصيلها متعاقدون أو مستشارون أجانب، ولكنها في الغالب لا تنسب لهم أو تجيّر بأسمائهم، وفي كل الأحوال فإن مثل هذه الأبحاث الفارغة شكلا ومضمونا تستنزف الخزينة المخصصة للأبحاث العلمية المعتبرة وذات الجودة العالية‪.‬

وبالتتبع المباشر لعينة من الأبحاث التطويرية في إحدى الجامعات المحلية الكبيرة لوحظ أن أقل ميزانية بحث تطويري يشارك فيه مدير الجامعة أو أحد وكلائه لا تقل عن ربع مليون ريال، وإذا أحسنا الظن وافترضنا جدلا أن أحد هؤلاء المسؤولين يشارك في العام الواحد بأربعة أبحاث تطويرية فقط، فهذا يعني أنه يتقاضى مليون ريال في كل عام جراء هذا النوع من الأبحاث، علاوة على مرتبه الشهري وما يضاف عليه من بدلات ومكافآت، بينما هناك أستاذ مغمور في معمله وبين كتبه، متفوق في بحثه العلمي، ويعمل بجد واجتهاد، يتقدم لعمادات البحث العلمي ببحثه الأصيل فيعطى دعما ماليا مجموعه لا يزيد على ثلاثين ألف ريال، ويشترط عليه ألا يشارك بأكثر من بحثين في العام الواحد‪!‬

إن حال المنظومة الأكاديمية المحلية في مثل هذه الأوضاع كحال مريض يشكو أوراما خبيثة، وأوجاعا مزمنة، أتت بشكل مؤلم على مفاصل العمل الأكاديمي، وعلى أعضائه الحيوية، فجعلت شكله مشوها، وحديثه مختلا، وسيره غير متزن، ولا بد من استئصالها استئصالا جذريا، لأن الخلل الحقيقي ليس في الأنظمة، وإنما في تسلط فئة من المتنفذين في المؤسسة التعليمية التي يعملون فيها، فالرأي رأيهم والقرار قرارهم، ولا مجال لسؤالهم والتحقيق معهم، ولهذا السبب ينبغي على الجهات الرقابية الكشف عن عدد الأبحاث التطويرية ذات الصبغة الاضطرارية، وعن الأموال التي صرفت عليها، على الأقل في العشر السنوات الماضية!

قبل يومين بعث لنا أحد الزملاء كتابا الكترونيا، ظننته في البداية عرض «بوربوينت» لمحاضرة أو ندوة، ثم لما قلبت صفحاته وجدت أنه أشبه ما يكون بالأبحاث المدعمة في الجامعات المحلية، ولفت انتباهي أنه مسجل بشكل رسمي لمؤلفيه؛ وكيل جامعة سابق وهو مستشار حالي لمدير الجامعة، ومعه اثنان من المتعاقدين، وعلى أرجح الظن أن الذي كتب وقرأ واعتنى بالكتاب، وجمع بياناته وأخرج رسوماته هما المتعاقدان، وليست القضية هنا! وإنما القضية الأساسية تكمن في أن الكتاب كان محصلة لبحث تطويري، نال عليه الباحثون دعما ماليا سخيا من الجامعة، بل وطبع على نفقتها، وبما أنه أرسل الكترونيا فلا بد وأن يكون مجانيا!

وأنا هنا حينما أورد قصة هذا الكتاب لا أنتقد موضوعه أو ما جاء في محتوياته، ولا أجرح أو أعدل في أصحابه، بقدر ما أحاول تنبيه الجهات المسؤولة إلى مواطن ما يمكن أن يكون شبهة فساد لا سمح الله، وأحاول تسليط الضوء على مظاهرها وآثارها الناشئة من إساءة استغلال المنصب الأكاديمي، وفي الوقت ذاته أسترعي اهتمام معالي الوزير لوقف مثل هذه الأبحاث فورا، ومحاسبة من يحاول أخذ ما لا حق له فيه، فكلنا نقف صفا واحدا ضد الفساد بكل أشكاله وألوانه‪.