عبدالله المزهر

ولكن أكثر الناس لا يسكنون!

سنابل موقوتة
سنابل موقوتة

الاحد - 29 ديسمبر 2019

Sun - 29 Dec 2019

بعض معارفي وأصدقائي القليلين يتهمونني بأني انطوائي لا أحتك بالناس ولا أعرفهم وبالكاد أعرف بعض أقاربي، والحقيقة أني كنت مقتنعا أني لست كذلك، وكنت أدافع دفاعا مستميتا لنفي هذه الفكرة المؤذية، أظن أني أعرف الناس وأخالطهم، وأن أصدقائي ومعارفي كثيرون لدرجة أنه يصعب عليّ حصرهم. الأمر الذي كان يزيد الطين بلة هو أن دفاعي عن نفسي كان يقابل بشيء من السخرية والاستهزاء. كنت أساق قسرا للاعتراف بهذا الأمر وأنه الحقيقة التي لا لبس فيه.

ومضت الأيام ولم يستطع أحد أن يثبت هذه التهمة ولم أستطع نفيها، لكن الحقيقة ـ كما تعلمون ـ مهما اختفت أو تنكرت أو طمست معالمها لا بد أن تظهر يوما ما سافرة عارية رغما عن كل الذين كانوا يعتقدون أنهم نجحوا في وأدها، وكما قيل فإن الحقيقة «بذرة» حين تدفنها فإنها ستصبح شجرة يراها الجميع، وربما تصنع منها مشنقة يعلق بها من دفن البذرة، أو يقطع من أغصانها «مشعاب» يؤدب كارهي الحق والحقيقة.

وهنا لا بد من إرجاع الفضل لأهله، ومن لا يشكر الناس فإن في نفسه مرضا، نسأل الله السلامة من كل داء، وقد كان الفضل لوزارة الإسكان لوضعي أمام الحقيقة عارية كما هي دون رتوش، أنا بالفعل كائن منعزل انطوائي لا أكاد أعرف حتى الساكنين معي في المنزل، وحين أعلنت الوزارة أنها تمكنت خلال هذا العام فقط من إسكان ما يقارب الثلاثمئة ألف أسرة، وعلى افتراض أن كل أسرة مكونة من أربعة أشخاص فإن هذا يعني عددا من الناس يزيد على المليون إنسان يعيشون معنا ويشاركوننا ذات الحياة، ثم أكتشف بعد كل هذا بأني لا أعرف أحدا منهم ولا أعرف أحدا يعرف أحدا منهم، ولا أعرف حتى شخصا سمع عن واحد من معارف معارفه أنه ضمن هذا المليون. هذا يعني دون شك ولا ريب أن عليّ أن أعترف بعزلتي، ثم أتعايش معها أو أبحث عن حل وعلاج لها. أما إنكارها فلم يعد أمرا يمكن قبوله مع وجود هذا الدليل الدامغ الذي لا يمكن دفعه ولا إنكاره.

وعلى أي حال..

إن كنت مدينا للوزارة بالشكر على مساهمتها في معرفة أمراضي الاجتماعية والنفسية، فإني مدين بالاعتذار لوزيرها وفقه الله، فقد سخرت في وقت مضى من وصفه مشكلة السكن بأنها مشكلة فكر، وقد أثبتت لي الأيام أنه على حق، فالفكر لا يحدد تصورك للحياة والناس والأشياء فحسب، بل إنه أيضا يحدد لك ما يمكن أن تراه بعينيك، وما يمكن أن تلمسه بيديك، الفكر هو أيضا وعاء الحواس الخمس. الفكر وحده هو من جعل البيوت متوفرة والعقارات رخيصة ولكن أكثر الناس لا يسكنون.

agrni@