بندر الزهراني

عجزنا عن الابتكار استنزاف للموارد المالية

الثلاثاء - 10 ديسمبر 2019

Tue - 10 Dec 2019

لا شك أن التقليد الأعمى في الجوانب الأكاديمية أكثر ضررا منه في الجوانب الشخصية، فعندما يقلد شخص ما شخصا آخر في نمط عمله أو أسلوب حياته ولا ينجح في ذلك أو يكتشف أن التجربة لم تكن ذات قيمة، فإن تبعات فشله لا تنعكس إلا على شخصه هو، وربما في حدود ضيقة، يقع لذلك أثر على من يحيط به من أهله وأقاربه، ولكن عندما تقدم مؤسسة تعليمية ذات مكانة اعتبارية وطابع رسمي برامج وأنشطة مقلدة ومستنسخة من برامج وأنشطة عالمية ثم تفشل في تقليدها فإن آثار فشلها بالطبع ستكون وخيمة وكارثية.

برامج التعليم عن بعد لطلاب وطالبات الانتظام والانتساب، وعمادات التعليم عن بعد ووكالاتها، والمعامل التي جهزت بها والبرامج التي جلبت لها، والدورات التدريبية، والصرف المالي الباذخ والباهظ عليها وعلى هذا النوع من الأنشطة، كله ذهب هباء منثورا تذروه الرياح، لماذا؟ لأنه كان في منشئه تقليدا أعمى ومبنيا على أوهام وأحلام بعض المسؤولين، ولم يكن ضمن خطة استراتيجية واضحة المعالم ومحددة المهام والأهداف، ولم تكن لدى الإدارات العليا في الجامعات الرغبة والقابلية لسماع الرأي الآخر، الرأي الذي كان معارضا لمثل هذا الحماس غير المنضبط، ومعارضا للطموحات الشخصية الضيقة، وليتهم حينما قلدوا الجامعات العالمية قلدوها كما ينبغي ونجحوا كما نجح أولئك!

ولا يفهم أننا ضد التعليم عن بعد، أو ضد تجهيز المعامل واستجلاب أفضل البرامج، أو حتى ضد تقليد كبريات الجامعات العالمية في هذه التجربة أو في غيرها، لا أبدا، ولكننا ضد العمل الأعمى، العمل الذي لا يقوم على أسس واضحة أو يبنى على رؤية محددة، فالتعليم عن بعد أصبح اليوم شبه متوقف في جامعاتنا، بعد أن كان حديث الساعة ودندنة المسؤولين، يا ترى لماذا توقف؟! وأين ذهبت ملايين الريالات التي صرفت عليه؟ ما لم تكن هناك مساءلة واستجواب للمسؤولين عن مثل هذه البرامج وعن المصروفات التي خصصت لها فلن تنتهي عروض الـ one-man show وسيستمر النزف في جسد المصلحة العامة!

وعلى أن التقليد فيه شبهة اعتراف بالعجز عن الابتكار والإبداع، إلا أنه طبع جبل عليه الإنسان، ولا يمكنه الافتكاك منه بشكل تام، والإشكالية ليست في التقليد كسلوك في حد ذاته، وإنما في أهلية المقلد وفي ما يقلده، على سبيل المثال: التصنيف العالمي للجامعات حينما ظهر للمرة الأولى أثار زوبعة إعلامية كبيرة، تناولها الإعلام المحلي بشكل منطقي، وتساءل عن سر خلو مراكز التصنيف المتقدمة من الجامعات المحلية بالرغم من الدعم المالي الكبير والعناية الحكومية المركزة، فأدخلت جامعاتنا في دوامة من تقليد البرامج العالمية التي لها طابعها الخاص، ومكامن وعوامل نجاحها في بيئاتها الأصلية، فانحرف التقليد من المباح المحمود إلى الصعب المستحيل وغير المرغوب، وأضحت نجاحات جامعاتنا سرابا يحسبه الظمآن ماء!

أتذكر أنني بعثت برسالة لمدير جامعة سابق، أرفقت معها مقالا نشر في صحيفة أمريكية، كان يتحدث عن تلقي بعض الأساتذة من المتميزين في الجامعات الأمريكية عروضا مالية مغرية مقابل النشر العلمي مع إضافة أسماء باحثين من جامعته، وبدل أن يشعر بالخجل والأسى، أو على الأقل يبدي عدم علمه بما حدث، رد علي قائلا: إن الجامعة تقوم على سواعد أبنائها المخلصين! وكنت أتوقع أن يقال من منصبه هو وفريق عمله على خلفية ما أثير في الصحف آنذاك، إلا أنه استمر مديرا لجامعته حتى تقاعد، وأصبح جل فريقه فيما بعد مديرين لجامعات أخرى، والكارثة ليست هنا، الكارثة أن فرص العروض المغرية ما تزال متاحة.

لا بد أن هناك خللا في الذهنية التي تدار بها المؤسسات التعليمية، أو أن هناك أشياء أخرى تحدث ونحن لا نعلمها! وحتى نتخلص من حالة اللاثقة هذه ومن أزمة التقليد في جامعاتنا علينا أولا أن نعترف بأن تقليدنا للآخرين دون وعي منا لما نقوم به هو ضعف فينا وعجز حقيقي عن الإبداع والابتكار، وفي الوقت نفسه استنزاف لمواردنا المالية بطرق تبدو نظامية، ويجب أن نحاسب من أخطأ ونردع من يفكر أو يحاول الخطأ، وإلا فسنظل مستهلكين للوهم الأكاديمي كما أننا في واقع الأمر نستهلك الغذاء وكل ما هو جديد!

drbmaz@