محمد الصويلح

بنت المستكفي

السبت - 07 ديسمبر 2019

Sat - 07 Dec 2019

رزق المستكفي بالله أحد ولاة الأندلس بطفلة سماها «ولّادة»،هجينة ما بين عربي الآل، وأندلسية متناهية الجمال، فحازت منهما على بديع الخصال. نشأت تلك الشقراء على حب البيان، وهذا ما حباها فصاحة اللسان، ويعجبها من الناس الشعراءُ المهرة، أصحاب التمكّن في الصَّنعة والقدرة. صارت صاحبتنا مطمع الرجال، كيف لا وقد حازت المال والجمال، وكانت منتهى الأماني، للقريب والبعيد، والقاصي والداني. وأقامت لنفسها مجلسا تجمع فيه أهل الشعر والفصاحة، يتنفس بمعاني الحب، أو الفخر، وكان الغزل سيد الساحة.

جميعهم طمعوا لذات المقصد، وأن ينالوا من «ولّادة» قُرب الجناب والمرقد، وكانت فطينة لمرادهم، وأبعد منهم عن أهوائهم، فقد اكتفت بما حازت، ولو سابقتْ؛ لفازت. ولم يحز رضاها حائز، وبحبها لم يخرج قط فائز.

حتى غنى بمجلسها يوما شاعر، كان معتدا بنفسه ومكابرا، ولم يظهر لها تلطفا أو تمسكنا، وليس مراده أن يتكمن. كتمت في خاطرها بصيص إعجاب، ولم تطلعه على أهل أو أصحاب، فالكبرياء يمنعها، لكن مهد الحب يدفعها.

وجاء ميعاد المجلس المنشود، وكان شاعرنا بين الحشود، فلما جاء دوره بدأ الجمع يتحدثون: يا ترى ما هو صانع ابن زيدون؟ فغرد وأنشد، وتسلطن وتسيد، ولمح بالحب وعرض، وأطال الصوت وأخفض، فانتبهت «ولادة» لمراده، وأرادت سيطرة على فؤاده.

وتوالى اللقاء بعد اللقاء، وزاد الحب بينهما ونسي الشقاء، وكانت هي أغير الناس عليه، ولا ترضى لإنسية أن تصبو إليه.

أرادت «ولادة» يوما أن تبهج المحبوب، ولم تدر ما يحب وما المرغوب، فطلبت من جارية لها أن تغني، بأبيات الهوى والتمني، فغنت وأطربت، ومن سمعه اقتربت. وحين انتهت الجارية من التغريد، طلب «ابن زيدون» منها أن تعيد، فثارت «ولادة» من طلبه، وغارت أن تحوز الجارية عى قلبه، فأنشدت تقول:

لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا لم تهو جاريتي ولم تتخير

وقامت من مجلسها بغضب ثائر، ولا زالت مذهولة من طلبه الجائر، فخرج من مكانه هو الآخر، ولم يتكلم أو يتحاور. وطال العهد وكانت بانتظار اعتذاره، ولم يأتها بعدها وانقطعت عن أخباره، ولم تدر ما السبب؛ حين رأته قد ولى وذهب، ولم تعلم أنها قد أحبته ابتداء لكبريائه، فكيف سيأتي معتذرا كاسرا لخيلائه؟ ولم يسمع أحد من صاحبه أي همس، وتساوت الأوقات فصار اليوم كالأمس، وطال الزمان واستمر، وكلاهما يذوق المر.

وتوقدت في ذهن «ولادة» فكرة، وجالت وأطالت بها النظرة، حتى عزمت وهمت.

فأرسلت لوزير الدولة ابن عبدوس: لقد زاد فيّ الأسى والعبوس، فهل تشتهي وصالا؟ وتنال مني منالا؟

ولم يتوان عن الإيجاب، وأطال حديثا لها بإسهاب، ومقصدها من علاقتهم النكاية بابن زيدون، لا حبا في الوزير المصون.

وأعطت لمحبوبها المزعوم ما لم يكن به حالم، لتقهر بهذا الصاد الهائم، فيزيد ألمه على صدوده، ويبكي حسرة على وعوده. لكن العجب العجاب أن ابن زيدون أمات العتاب، ولم يعبأ بولادة وأمرها، وزادها حرا على جمرها. فتناست ذكره أو حاولت، وقلبهَا لابن عبدوس قد ناولت، ولم يسأل بعدها خِلّ عن خله، وأزال الوجد به من باله كلِّه.

وهمّ ابن عبدوس بإيذاء الخليل الأول، فغاص بفكره وتجول، ثم استنارت في عقله مصيبة، وبدأ التنفيذ لفكرته العجيبة، حتى تنفك «ولادة» عن التفكير بالرجوع، ولا يخضعها الشوق ويعنيها الخنوع.

وفي ليلة كئيبة، داهمت بيت ابن زيدون كتيبة، وساقوه إلى السجن معتقلا، ولم يجيبوه بأي شيء صاح به وسأل.

حتى مثل أمام القاضي وذكره بجريمة في الماضي؛ أنك هممت بإسقاط الخليفة قدس الله سره، وأعلى ذكره وأمره، فخططت وجماعة معك على الانقلاب، لكن هيهات أن تفلت من العقاب، وكشف الله سركم، وهتك ستركم، وبانت عورتكم.

وأعيُن ابن زيدون تنطق بالدمع مقهورة، وأدرك أن المسرحية محبوكة ومأمورة، فصاح يا الله أن أهلك القوم الظالمين، وأعني عليهم يا معين. فزجوه بالسجن ولم يحفلوا به، وصار شديد التعلق بربه أن يخلصه من هذا العناء، ولا يصيبه بالسجن الفناء.

وتوالت الأزمنة والأعوام، والسجن بصاحبنا هو المقام، ونسيت ولادة ذكره، واتخذت منه لأيامها عبرة، ولم يطل قربها لابن عبدوس، فانفصلت عنه كانفصال الرؤوس. وبعد السنين وطول الأجل، تسلل لابن زيدون اليأس وهزم الأمل، فاستسلم لما هو كائن وأراد رد الدين للدائن، فكتب أبياتا لمحبوبته معتذرا، طالبا منها عفوا ومغتفرا. يقول في بعضها مظهرا ألمه، ترى ذلك في كل كلِمِه:

حالت لفقدكم أيامنا فغدت سودا وكانت بكم بيضا ليالينا

ولما طال به المكث قرر الهرب، فاحتال حيلة ومن السجان تقرب، وتذلل حتى استطال، وتمكن بعد الصيال.

و أرسل لولادة أبياته، أملا أن تلم شتاته، ولم يأته منها رد، فواصل الهرب والصد، حتى أدركته المنية، ولم يحظيا أن يكونا سوية، ولحقته بعد ذلك وتساوت المهالك، وانتهت بذلك قصة الوجد، بنهاية لم تجلب السعد.

الأكثر قراءة

جميلة عادل فته

رجال الأمن.. رجال