ياسر عمر سندي

ثالوث الوعي المعرفي

الأربعاء - 06 نوفمبر 2019

Wed - 06 Nov 2019

سبحان من خلق وصور وأبدع وقدر وصنع بيديه وفطر، وكل شيء عنده بحسبان، يعلم خوافي الجان وأسرار الإنسان، يبدئ ويعيد ويُنقِص ويزيد، فتبارك القيوم المجيد فعال لما يريد. ومن هذه الخفايا التي هي أكثر تشابكا وتعقيدا في حلها والتي تتبع خطواتها وسبر أغوارها العلم العقلي ومن ثم فسرها الفهم النظري، هو ذاك التشريح البشري الغامض لجسم الإنسان ودوره الحيوي والاستراتيجي الذي يقوم به داخليا بالعمليات الفسيولوجية ومن ثم يترجمه خارجيا بالسلوكيات الظاهرية، فكل عضو بشري يتصرف ضمن منظومة متحدة وفرقة مرتبة في الأداء، وأوركيستارا موزونة ومتناغمة، والكل يؤدي مهمته الخاصة ضمن أجندة متتابعة يجري تنفيذها، وتتكامل مع غيرها من الآلات البشرية لإنجاز مهام إرادية وغير إرادية ضمنية وظاهرية للبناء البشري.

ومن هذه الأجهزة والآلات البشرية الملموسة لتنمية العقل وتكوين الوعي الفكري والدعم المعرفي لدى الإنسان الأذن والعين والقلب، والتي تجسد ثالوث الفلسفة المعرفية، وهذه الوسائل ما هي إلا أوعية ناقلة تقوم بمهام عظيمة.

فالأذن تعمل كجهاز التقاط خاص أو عام حال الإنصات والاستماع، والعين متخصصة في تقديم الدعم اللوجستي للأذن عن طريق عكس الصور المتحركة وتحليل المواقع وتحديد الأهداف والغايات وإحداث التطابق الصوتمرئي، والقلب يتكامل مع الأداتين السابقتين في بث الأحاسيس والمشاعر والأفكار وتفنيدها، وانتقاء الجيد والسيئ أو الجميل والقبيح والحزين والسعيد، وغيرها مما يخالج القلب من عمليات تعتصره أو تساعد على تنشيطه وهي إفرازات يطلق عليها في المحصلة النهائية الفؤاد. قال تعالى (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) الإسراء الآية 36.

ومن وجهة نظري المعرفية أرى أن سياق الآية الكريمة السابقة جاء تأكيدا لحاستين وعطف عليهما الثالثة كمحرك للمشاعر الدفينة من خلال عكس التراتب الرباني، من حيث تقديم السمع كونه أولى درجات الحساسية في خط السلسلة المعرفية، والأذن تتحمل المسؤولية الكبرى في تحقيق الإدراك وتعزيز الانتباه، والمنفذ الذي يقيس الذبذبات الصوتية من حيث شدتها ومدتها، وتعتبر أيضا الحارس الحدودي للمعلومات المنطوقة التي تعمل على تفنيد وتمييز الجيد وما دون ذلك بآلية راقية، ومن ثم يأتي دور البصر لتأصيل الفهم والتعقل والاسترشاد بعد السمع، وهو حاسة التعلم الإنساني الثاني الذي يشبع الخيال ويعمل على تغذيته وتنشيطه لدى الإنسان، فالبصر يولد اليقين الجازم ويؤكد الصور الموجودة في الذهن.

وكما أن السمع يكون عن طريق الأذن والبصر عن طريق العين، يجب أن يكون للفؤاد عضو مسؤول عنه، وهو كما أسلفت عضلة القلب لتحقيق البناء والتكامل المعرفي.

الفؤاد هو مخزن الذكريات السمعي والبصري الذي تم استقباله وتحليله. فيبدأ بلعب دور الحافظة الزمانية والمكانية للمشاعر وتقلباتها، فحالات الألم الشديد أو الفرح الشديد تكون داخل القلب وهو ما يسمى التفؤد، فأحيانا يقال في اللغة رقص قلب فلان فرحا من سماع الأخبار السعيدة، ومما طابقه من صور مرئية تسره، وعلى النقيض هنالك من يعتصر قلبه ألما مما سمع ورأى، وأحيانا يفرغ هذا القلب ويصبح خاليا من أي مشاعر وأحاسيس إذا غاب الخبر أو ضاع المنظر ولم يجد هذا القلب ما يحمله من أخبار تقره، قال تعالى (وأصبح فؤاد أم موسى فارغا) القصص الآية 10.

وأثبت العلم مؤخرا أن الذكاء العاطفي هو أقوى الذكاءات البشرية لأنه يتكامل بين ثلاث ركائز، هي الاستماع والنظر والميل القلبي للمشاعر والأحاسيس المختزلة بين العقلانية والعاطفة في الحكم على المواقف من حيث الارتياح أو عدمه، فأول ما يسمعه الجنين في باطن الرحم هو بصمة أمه الصوتية، وآخر ما يسمعه المتوفى أيضا في باطن القبر هو شِراك نعل أقاربه وذويه.

@Yos123Omar