مرزوق تنباك

الفرق بين مجتمع يقرأ ومجتمع يستمع

الثلاثاء - 29 أكتوبر 2019

Tue - 29 Oct 2019

عقد قسم الدراسات الإسلامية في جامعة الملك سعود في الأسبوع الماضي ندوة عن البخاري بعنوان (صحيح البخاري والقراءات المعاصرة)، ويظهر أن الندوة تحاول أن تجيب على ما تعرض له صحيح البخاري في السنوات الأخيرة من نقد لبعض ما جاء به من روايات ونصوص يستشكل معناها من لم يكن من أهل الاختصاص، وحسن ما فعل القسم لعقده الندوة، حيث دافع الباحثون عن الصحيح وعن الثقة فيما جاء به من نصوص، وزعموا أن ما يتعرض له من نقد جاء من المستشرقين والعلمانيين والملاحدة وما شابههم من أعداء الدين.

هذا الجهد من أهل الغيرة على أحد مصادر رواية الحديث عند أهل السنة يعد جهدا مشكورا لا شك في ذلك، ولكن كان المأمول أن يكون منهج الرد على النقاد منهجا علميا يواجه النقد الموجه لصحيح البخاري بروح علمية تتجاوز الشتائم للمستشرقين والعلمانيين والملاحدة وأعداء الدين ومن معهم، إلى ما أثاره المنتقدون بغض النظر عن مذاهبهم وأفكارهم وأديانهم.

هؤلاء الذين نقدوا صحيح البخاري لم يكن لهم علم الفضلاء الذين قدموا قراءاتهم دفاعا عنه لمعرفتهم للحديث وتخصصهم به وانتصارا للبخاري ومذهبه، أما المنتقدون فهم أهل تخصص في العلوم الإنسانية ومفكرون وعلماء في تخصصاتهم وأهل نظر فيما يقرؤون من النصوص التي يرون فيها استشكالا معرفيا، ولا سيما في متن النص، وليس في صحة السند الذي كرس الباحثون الحديث عنه، هذا ما درج عليه العلماء المسلمون منذ القدم والمثقفون العرب منذ واجهوا الثقافة الغربية بمناهجها التحررية التي ترى النص مفتوحا لمنهج غير المنهج السائد في الثقافة الإسلامية.

الثقافة الغربية تتصف بالحرية الفكرية، ولا تأخذ ما ينقل ويقال على أنه مسلمات، وأهل المنهج المعاصر في الغرب يعرضون ما يرون وما يجادلون فيه على العقل والمنطق والدليل، ويقابلون الأقوال في التراث النظري خاصة ببعضها، ولا يفردون كل نص عن سياقه ولا يقطعونه عما حوله لكي يصلوا إلى ما يطمئنون له من الدليل الذي يرضونه أو يرونه أقرب إلى ما يتوفر من نصوص يعزز بعضها بعضا.

وتجريم خصوم البخاري لا يقدم جديدا ولا يرفع الاستشكال الذي يطرحه هؤلاء الخصوم، وعرض الحجج والبراهين التي تنطلق من المسلمات عند المسلمين والحديث إلى الذات يصدق عليه القول المعروف: كل مجر في الخلاء يسر.

كان الأولى بهذه الندوة والمشاركين فيها إدراك التغير الحاصل في العالم حولهم وفي مجتمعهم، والتمييز بين قناعاتهم بحكم التخصص وما كان معهودا لهم حين كان الشيخ يلقي دروسه في خلوة أو زاوية على مجموعة من المستمعين لا يعرفون غير ما يسمعون من قول الشيخ، وبين مجتمع يقرأ ويفكر ويستشكل، وله اهتمام بالمعارف العامة التي تمس حياته ويعرف مناهج العلوم التي يتلقاها ويشارك في تداولاها.

مجتمع اليوم غير مجتمع الأمس، لا يأخذ ما يقول الشيخ على أنه مسلمة ويدعو له ويقبل رأسه أخطأ أو أصاب، مجتمع اليوم تغيرت مسائله ومعارفه واستشكالاته، وهو مجتمع قارئ وإن لم يكن متخصصا، والمتحدثون إليه يجب أن يدركوا هذه الحقيقة ويتقبلوا تبعاتها والتغيرات التي تحصل جراء ذلك، ويعوا واقعهم الجديد ويعرفوا ما يريده قراء اليوم وليس قراء الماضي.

تمنيت لو أن المشاركين في ندوة صحيح البخاري أدركوا حقيقة المخاطب والمنهج المعتبر في العلوم النظرية بعامة الذي ينطلق منه من ينتقد موروثنا وتراثنا بمنهج غير منهجنا، وخاطبوا الناس على قدر عقولهم حتى وإن كانوا مستشرقين وعلمانيين وملاحدة، فشأن الندوة والمشاركين فيها الرد عليهم وبيان أخطائهم، وليس الحديث إلى المستمعين الحاضرين أمامهم الذين لم يثيروا نقدا ولا يجدون استشكالا.

Mtenback@