عبدالله المزهر

متلازمة العنز والمريس!

سنابل موقوته
سنابل موقوته

الخميس - 26 سبتمبر 2019

Thu - 26 Sep 2019

يقال في الأمثال الشعبية «الزود أخو النقص»، ويبدو أن مبتكر هذا المثل قد عانى في وقته من أعراض انفتاح مفاجئ بعد كبت طويل فجادت قريحته بهذا المثل الذي سارت به الركبان.

والحقيقة أني لم أستطع هضم الحفلات الموسيقية والأغاني الصاخبة في أروقة المشافي ودور العلاج، ولا في أي مكان آخر غير مخصص لها. فلا المكان مكانها ولا الاحتفاء بالوطن ويومه يعني أن تتحول المستشفيات إلى قاعات أفراح. وإذا كان استخدام منبه السيارة في الطريق القريب من المستشفى يعد سلوكا سيئا ـ كما علمونا في المدارس ـ، إضافة إلى كونها مخالفة مرورية تستوجب غرامة مالية فتحت أي باب يمكن تصنيف تشغيل مكبرات الصوت لتصدح بالشيلات داخل أروقة المستشفى ذاته وليس في الطريق القريب منه. ولا أعلم ما هي الرسالة التي تريد أن تقدمها للوطن تلك الطبيبة أو الممرضة أو الموظفة وهي تتراقص على تلك الأنغام بين ذلك الجمع المبارك. فالمشهد كله نشاز، صوتا وصورة.

ويبدو لي -والله أعلم- أن البعض قد تلقف رسالة الحكومة بشكل غير سوي، فالحرية لا تعني أن تمارس كل ما تريد في أي مكان تريد وفي أي وقت تريد، وكون عمل ما مقبولا في مكان ما على هذا الكوكب لا يعني أنه مقبول في كل مكان. والحقيقة أني لن أستغرب كثيرا لو وجدت من يرقص على أنغام شيلة في المقبرة بحجة أن الدولة تشجع الانفتاح.

يوجد فرق بين أن يكون مسموحا لك بممارسة الشيء وبين أن تعتقد واهما أنك لا بد أن تمارسه لتتقرب إلى من أقره زلفى. إذا كانت الدولة لا تمنع أكل البطيخ فهذا لا يعني أن من ضرورات المواطنة الصالحة أن تأكل البطيخ كل يوم وفي كل وجبة، وألا تنام إلا وأنت تحتضن بطيخة حمراء قانيا لونها تسر الآكلين.

وقد وجدت كثيرا من الذين ينتقدون تصرفات السائح السعودي خارج السعودية يركزون على نقطة «احترام ثقافة الآخرين»، وأن الشعوب الأخرى ليست مجبرة على تقبل ثقافتك، ووجدت كثيرا من هؤلاء يشنعون على سياح سعوديين لأنهم نقلوا معهم عاداتهم أثناء ترحالهم.

لكن كثيرا من هؤلاء أنفسهم بشحمهم ولحمهم وكافة مكوناتهم يجدون المطالبة باحترام عادات وثقافة المجتمع السعودي داخل السعودية نوعا من التخلف والرجعية، يعتبرك متخلفا حين تقول له إن المجتمع في مجمله لا يتقبل فكرة رقص المرأة بين جموع الرجال الغرباء، لكنه لا يجد حرجا في أن يطلب من السعودي أن يكف عن حمل دلته معه إلى الخارج، أو صلى على رصيف في دولة من دول الفرنجة، احتراما لثقافات الشعوب الأخرى.

وعلى أي حال ..

أظن أن هذه الهبة من الانفتاح «على غير سنع» موقتة وربما منطقية، فالتحول المفاجئ يصاحبه في البداية ما يمكن تسميته بمتلازمة «العنز والمريس»، النهاية الطبيعية لهذه المرحلة هي أن يلتقي الجميع في المنتصف، لا إفراط ولا تفريط، أن نكون منفتحين على العالم ومتصالحين مع أنفسنا وثقافتنا، لأن الانسلاخ من الهوية لم يكن يوما دليل تحضر ولا علامة على تقدم، وكل الذين جربوا الانسلاخ من جذورهم بقوا معلقين في الهواء، لا هم لحقوا بمن يريدون تقليدهم ولا هم حافظوا على مكانهم ومكانتهم.

agrni@