جبريل العريشي

غوغائية الفكر

الثلاثاء - 17 سبتمبر 2019

Tue - 17 Sep 2019

كل منا يتمتع بخصوصية الفكر، فلا يستطيع أحد أن يقرأ خواطرنا أو يعلم ما يدور في أدمغتنا. ومهما ادعى أشخاص بأنهم يمتلكون مهارة استنتاج ما يقصده الآخر، من خلال معرفتهم بخلفياته الثقافية أو مساهماته المجتمعية، إلا أن هذا الاستنتاج يكون دائما محاطا بالشك في مدى صحته، حتى لو كان حقيقيا. وقد يكون الاستنتاج غير صحيح في كثير من الأحيان.

لذا، فإننا لا ندري، وليس بوسعنا أن ندري، كنه ما يصدر عن الآخرين. هل هو حقيقي أم كاذب. فوسائل الإعلام تسعى وراء ما يصدر عن الألسنة، ولا يمكنها أبدا أن تصل إلى ما في داخل الأدمغة.

يسوقنا هذا الطرح إلى النظر في ما تتداوله وسائل الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي عبر الانترنت، كيف نتعاطى معه؟

فهناك الغوغائيون الذين يعمدون إلى الإلهاء بدلا من طرح القضايا الجادة، أو يحولون النقاش العام إلى خصومة بين أطراف النقاش. فهم يخلقون حالة من الهرج والمرج، وكلما ظهرت حادثة يوجد مثلها في كل المجتمعات، نرى من يحولها إلى أمر يلامس الوجدان، أو إلى فصيلة الخطوط الحمراء التي لا ينبغي المساس بها، فنسمع عبارات زاعقة تنم عن الإفلاس الفكري.

وهناك الفضائيات التي تشعل النار في قضية من القضايا، بحجة أن الإعلام الحر هو مطلب جماهيري، وأنه يحقق شغف المواطن بمعرفة ما وراء الكواليس فيما يخص الأحداث الكبرى، وأن الجمهور له الحق في معرفة الحقيقة. وهي مقولات حق يراد بها باطل. فلو صدقوا لتناولوا كل القضايا بنفس المنهج، لكن اختيار بعضها دون البعض الآخر يشي بعدم النزاهة، وبوجود أجندة خاصة.

وهناك المؤتمرات الثقافية وورش العمل والحوارات العامة التي قد تسعى وراء من هم على استعداد للتحدث مجانا في الشاذ من الأمور، ونتعجب لم يفعل منظموها ذلك؟ هل هم يتحدثون باسم آخرين من خلف الستار، بغرض الإلهاء عن سياساتهم، أو التمهيد لتوجهاتهم القادمة؟

ومن يتحدثون، هل يفعلون ذلك أملا في جذب الانتباه إلى قدراتهم، أو أنهم يبيعون مهارتهم لمن يدفع أكثر خلف ستار من الاستقلالية والموضوعية؟

وهناك من يسعون وراء كثرة المتابعين، ممن يعلمون أن أكثر ما يجذب قراء اليوم هو أخبار نجوم الفن والمجتمع، والتقارير المثيرة، وأخبار الفضائح ومباريات الكرة. فكل منها له جمهور عريض. فيكون ظاهر الأمر هو بث الإعلانات التجارية التي يزداد العائد منها بزيادة عدد من يتعرضون لها، وباطنه يستهدف إلهاء الناس عن التبصر فيما يجري من أمور، أو إثارة النعرات والفتن.

فهل نملك مهارة اكتشاف الفجوة بين ما يقوله الرموز من السياسيين والمفكرين وبين ما يدور في أدمغتهم؟ أو الفجوة بين رغباتهم الدفينة وبين أفعالهم المكشوفة؟ بالقطع لا. فلن نعلم أبدا حقيقة الأمور إلا من منظور من يبثها. فإن كان هذا الإعلام «الحر» مملوكا لرجل أعمال، فإنه سيوجهه لخدمة مصالحه. وإن كان مدعوما من دولة ما فإنه سيكون خادما لسياستها.

[email protected]