أحمد الهلالي

من مذكرات الحكيم النباتي!

الثلاثاء - 17 سبتمبر 2019

Tue - 17 Sep 2019

كلما التقى الشيخ وضاح بابنه وجده على غير ما رآه بالأمس، وبات القلق ينهش فؤاده على ما يراه من حال ابنه، فقد كان سعيدا بالنجاحات التي يحققها في حياته، لكن ثمة أمر لا يعلمه الفلاح الحكيم ظل يلح عليه، فسأل زوجة ابنه عن أحوالهم، وتقصى في أسئلته عن يسرهم المالي، وظل على هذه الحال من التسآل، لكن كلما سأل ابنه أجاب بأنها أمور حياتية عادية، ومشاكل بسيطة سرعان ما تزول، ولا تدعو إلى القلق.

مضى نصف العام، وحال الابن تزداد سوءا، فأعد الحكيم مأدبة عشاء، ودعا ابنه، فجاء بأسرته، واستغرب أن والده يستقبله في مجلس الضيوف الخالي، فسأل أباه: أين ضيوفك ومن هم؟ فأجاب: أنت ضيوفي كلهم، وأقسم عليك بالله أن تخبرني بكل ما يعكر صفوك، فاحمرّ وجه الابن وتنهد، ثم قال: يا أبي أشعر أني منبوذ، ولا حظ لي في الناس، أصدقاء وزملاء وأقارب، كل من أشعر بارتياح إليهم أجدهم يحققون مصالحهم من خلالي ويغربون بعيدا، تعبت كثيرا من تكشفهم لي واحدا تلو الآخر، فقررت الانطواء على ذاتي والبعد عنهم جميعا.

تبسم الأب، ابتسامة راحة حين اطمأن على حال ابنه الوحيد، ثم نظر إلى السقف، وقال: يا بني، الناس خلقوا من تراب، فانظر إلى ألوان التربة وأنواعها وأشكالها وأحوالها، وإنك لتعجب حين تجد فلاحا يحرث السبخات، أو يسقي الرمل، أو يبذر بين الحصباء والصخور، فتأمل واختبر وتخيّر، ولا تعط الآتي كل ما لديك حتى تعجم عوده.

يا بني، الناس كالنباتات، كلاهما خرج من الأرض، ستجد نباتا لا زهر له ولا ثمر، ولا نفع ولا أثر، ونباتا له زهر جميل لكن بلا عطر ولا رائحة، ونباتا لزهره رائحة زكية لكنه مليء بالأشواك، إن لم تحاذر ستجرحك أشواكه قبل أن تقطف زهره، وستجد نباتات لها زهور عطرية تنعش روحك ولا تصيبك بأذى، وستجد من الناس مثمرين لكنهم كالبرشومي لا يعطيك ثمره دون أذى شوكه إن لم تكن بصيرا به، وكل صنف من تلك النباتات ستجد له شبيها في الناس، فاعتدل الابن في جلسته قائلا «يا رباه، كمّل يا أبوي الحكيم كمّل».

يا بني، ستجد رجالا كالنخل شامخين في الأعالي، خيّرين صبورين، لكنك لن تصل إلى ثمرهم إلا إذا سموت إليهم، وكنت على أخلاقهم، وستجد أناسا كالنباتات المتسلقة لا عطر فيها ولا ثمر، ولا ساق تقوم عليه من فعل كريم، فتظل تمتد على الأرض حتى تجد شجرة واقفة، فتتسلقها وتظل هكذا حتى تبلغ قمتها فتغطيها وتحجب عنها ضوء الشمس، فتضعف الشجرة، وإن وجدت شجرة أعلى منها تسلقتها أيضا متناسية الشجرة الأولى، وستجد أناسا مثمرين كُرماء كالتفاح والرمان لا شوك يحجب فاكهته ولا أذى، وستلقى أناسا كشجر العُشَر لا ظل ولا نفع ولا ثمر، وستجد نباتات طفيلية تنمو في ظلك، تحنو عليها وهي تمتص كل خير يصيبك، وستجد أناسا كالعنب، تحنو عليه وترفعه فيعطيك أطيب الثمر، فتأمل أصدقاءك على مكث، وثق أنك بالحذر والمصابرة ستعرف أصحابك نباتا نباتا، دون أن يصيبك ضيق ولا مكروه.

تبسم الابن، وقال: أشعر براحة الآن، فقد أضأت طريقي يا أبي، وقد علمت أني زرعت ذاتي في حديقة واحدة، قليلة النخل والتفاح، وبدلا عن انطوائي سأقفز إلى حدائق أخرى، أتخير من سُراتها نخلا ورمانا وأكون مثلهم، فقال الأب «كلا، يا بني لا تقفز، لكن انقز اشتر لنا عشاء، أمك ما طبخت!».

ahmad_ helali@