محمد أحمد بابا

في التصنيف تطفيف

السبت - 14 سبتمبر 2019

Sat - 14 Sep 2019

في المحال التجارية التي تسمح لك بتقليب البضاعة تختار أكثر حبات البرتقال نضجا، وبذلك تستوفي حقك غير منقوص، لكن المحال التجارية التي يقوم فيها البائع بإحضار ما تريد على منوال قديم يقول المشتري: أعطني كيلو طماطم غالبا ما يكون النقص والإخسار هو السمة الطاغية.

هذه هي قصة التطفيف الأساسية بمثال بسيط وهام أورده القرآن في سورة كاملة سميت باسم هؤلاء القوم الذين يحبون أنفسهم غير آبهين بحقوق الناس ولا حريصين على إعطاء كل ذي حق نصف حقه، بل لو استطاعوا لما شرب غيرهم من الماء القراح شربة ماء.

«ويل للمطففين، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون» هذا النص رغم صراحته في الممارسة العادية لكنه يدلنا على أسلوب عام في نفس الإنسان السيئة إذا استسلمت للأنانية حتى تسيطر على نظرته للحقوق.

ومن هذا المنحى جاءت حمى التصنيف لترتع كقوارض حشرية في جسد العدالة، وبدأ كل من يريد تبرير الظلم بوضع تصنيفات مسبقة للناس لينطلي هذا العمل على سذاجة العامة ويقولون بأعلى صوت: معه الحق.

ليس في العالم أرقام تجعل تصنيف العوالم بأنها عالم ثالث وعالم ثان وآخر أول؛ واقعيا ومنطقيا، ولكنها رغبة في تقسيم العدالة وفق الدرجة التي يقبع فيها كل عالم، فما يستحقه العالم الثالث من تدمير وتجويع وحروب أكثر مما يستحقه العالم الأول.

وفي الوقت الذي يخرج فيه كثير من الناس عراة في العالم الغربي فذلك من قبيل الحرية الشخصية لكن النساء اللاتي يرتدين الحجاب في شوارع أوروبا وأمريكا فهذا ضد التطور واستهجانه يرفع المرشحين في الانتخابات.

ولننظر للمال، لو حصلت على تمويل من أحد البنوك وتأخرت في السداد أو أصابتك ضائقة فلا غفران لذنبك، ولكنك لو استخدمت بطاقة الصراف في سحب مبلغ من المال من أحد أجهزة الصرف الآلي ولم تقم تلك الآلة بإعطائك المبلغ لخلل فيها وتم حسمه من حسابات البنك فإنك ستنتظر معاملة تمر على كل موظفي البنك وأنت مجبر أن تنتظر بنكا لم ينظر إليك بعين الرحمة يوما.

شركات الاتصالات تيسر عليك الوقت والجهد لتنضم لها لأن فواتيرك بالنسبة لها أنفال غزوات، لكنك لو اتصلت بهم أن ألغوا خدمتكم بعد تسديدك كل مستحقاتهم فستذوق الأمرين، وكل تأخيرة فيها خيرة، وكل تقاعس منك فيه تطفيف لهم وتصنيف لك بأنك من الذين يلدغون من الجحر نفسه ألف مرة.

واسألوا نساءنا عند بيعهن مجوهراتهن الذهبية بأرخص الأثمان وأدق تفاصيل الميزان بخلاف شراء من ذات المحل وشتان بين ميزان وميزان، والقضية في السيارات لا تختلف كثيرا، فلو أتيت بسيارتك لبيعها عصرا في «الحراج» لتهافت عليك أهل ذلك السوق المخيف حتى تبيعها بأقل من ربع سعرها، ولو عدت بعد نصف ساعة وعرضت شراءها لأصابتك جلطة «تطفيف» من هول الفرق.

والحال في السلوكيات لا يختلف كثيرا، فأنت مسلم إذا خاطبك إمام المسجد وأنت أسمر إذا اجتمع البيض في حفل زواج ابن جيرانكم، وأنت ليبرالي إن تكلمت في الحقوق، وأصولي إن تحدثت عن الجهاد، وراديكالي إن أرجعت العالم للتاريخ، وأنت متطرف إن انتقدت التدخين وترك الصلاة، وأنت جاسوس إن أبلغت الجهات الرسمية عن مصنع للخمور بحيك أو حارتك، وأنت جاهل إن لم تعرف مشاهير الرياضيين، وفاسق إن أوردت في حديثك كلاما عن الفنانات.

أما الإدارة والوظائف فيكفي في مشكلة التصنيف والتطفيف بين الرؤساء والمرؤوسين أن تعرف أنك إذا أخذت وقتا طويلا في عمل ما فأنت بطيء لكن إذا أخذ رئيسك وقتا طويلا في ذلك فهو دقيق،، وإذا عملت شيئا ما بدون أن تكلف به فأنت متجاوز لصلاحياتك أما إذا عمل رئيسك نفس الشيء فهي مبادرة.

وحسبما أفهم الإسلام بأنه جعل هذه التصرفات المعتمدة على التطفيف في التصنيف سبب عذاب الله وإهلاكه للأمم السابقة، ومع ذلك كانوا مطففين أملا حتى إذا رأوا سحابا قالوا هذا عارض ممطرنا وفيه عذاب أليم، فما أشد الظلم حينما ترى التعامل مع غيرك يختلف.

albabamohamad@