بندر الزهراني

بين ناطحات الماضي وثلوج المستقبل!

الجمعة - 23 أغسطس 2019

Fri - 23 Aug 2019

عندما كنت في العاشرة من عمري وقعت في يدي قصاصة لخبر منشور في إحدى الصحف المحلية، كان مفاده بأن في الباحة ناطحات سحاب لا يضاهيها مثيل، فهي تناطح السحاب طوال العام، وسبحان الله كأن ناطحة ويليس تاور في شيكاغو كانت تتمدد صيفا وتتقلص شتاء! ولبراءة الطفولة، ولأن الذهاب إلى الباحة كان شاقا لعدم توفر المواصلات المتاحة لي آنذاك، صدقت الخبر، واقتنعت بوجود ناطحات سحاب في الباحة، وبقيت كذلك على أمل أن أزورها يوما ما، وأحتسي في ردهات إحدى الناطحات هناك ما لذ وطاب من أطعمة وشراب، ولما كبرت قليلا أدركت أن كل بيوت الباحة تعانق الضباب أغلب أيام السنة، وأن أطول ناطحة ضباب هناك لا يتعدى ارتفاعها عشرة أمتار في أحسن الأحوال!

لم يكن لدي إشكالية كبيرة في خبر القصاصة العابرة، حالها حال كثير من القصاصات العابرات، ولكن الإشكالية كانت وما زالت في محاولات النطح المستمرة، خاصة حينما يتعلق الأمر بالتنمية والتطوير السياحي، ومنذ ذلك الوقت لا الصخرة أوهنت أو هي تفتتت، ولا حمى قرنه الوعل!

اليوم وقد قاربت الخمسين من عمري وقع نظري على تغريدة، أشبه بقصاصة الماضي، لأحد المسؤولين يتحدث فيها بكثير من الثقة والحماس عن مشروع الجبل الثلجي في منطقة الباحة، ضمن الأفكار السياحية المطروحة هناك.

والواقع أنني لا أود أن أكون مثبطا لجهود السياحة في المنطقة، وأنا الحالم بأن أرى كل موضع قدم فيها مهوى للزائرين ومبتغى للسائحين، ولا أود أن أكون إلا باعثا للأمل، وطامحا لها في كل عظيم، كيف لا وأنا المحب والعاشق والمغرم بها! وأرجو ألا أبدو عاقا لحبيبتي إن كتبت كلاما عنها ليس ككل الكلام، ونقدا فيها ليس ككل النقد، فليس كنقد المحب نقد، ولا كعتبه عتب، وأرجو ألا يفهم بأي شكل من الأشكال أنني أقف ضد الأفكار الإبداعية الخلاقة، كفكرة الجبل الثلجي، بل على العكس تماما، ولكن هناك من العوامل الجاذبة للسياحة في المنطقة، ولها الأولوية في التنفيذ، ما هو أقرب واقعا وأسهل تنفيذا وأقل تكاليف.

في دوس مثلا حيث عبق التاريخ وجمال الطبيعة وشموخ الموقع، يقع جبل «ظهر الغدا»، وهو الأطول ارتفاعا بين جبال المنطقة وأكبرها سعة وامتدادا، جذوره تضرب قوة ومتانة في أعماق سهول تهامة، ومن قمته يمكن للرائي المتمكن رؤية البحر الأحمر غربا في اليوم الصحو المشمس، في أعلاه تلة كجبهة الإنسان، يقال لها «جبهة أم غيلان»، وأم غيلان هذه ليست مجرد تسمية عابرة كالعابرات، بل هي سيدة عربية أصيلة، ذكرت في الجاهلية والإسلام، أجارت مجموعة من قريش جاؤوا إلى دوس، ولما شعروا بالخوف أن تقتلهم دوس ثأرا لأبي أزيهر الدوسي، استجاروا بأم غيلان في قمة هذا الجبل، فأجارتهم حتى عادوا إلى مكة، وحفظ الناس ومعهم صفحات التاريخ تاريخ هذه القمة، اسما وشموخا، إلى أن أتت جرافات بلدية المحافظة، وجرفت التاريخ وكل ما هو جميل، ثم شقت طريقا في هذا الجبل الأشم حتى بلغت جبهة أم غيلان واستبدلت موضع الإجارة بمتنزه ودورات مياه وملعب كرة قدم!

السياحة ليست في شق الجبال هكذا وتغيير معالمها التاريخية إن وجدت، ولا هو باستحداث متنزهات أو قلع الأشجار الطبيعية واستبدالها بنخيل الواشنطونيا أو ما شابه ذلك، كلا، فصناعة السياحة تتمركز حول الوعي بقيمة الموقع التاريخية وحدوده المكانية ومقوماته السياحية ومعرفة آثاره وأخباره والمحافظة عليها، أي العناية بالطبيعة نفسها ثم بمحاكاتها إن دعت الحاجة لذلك.

وقبل أن نفكر في جعل جبال الباحة بيضاء مكتسية بالثلوج علينا أن نحاول ما أمكن أن نعيد لها خضارها ونضارتها، وعلى الجهات الرسمية ذات العلاقة إشراك النخب المثقفة وأخذ مرئياتهم والاستفادة من خبراتهم، وإقامة ندوات وورش عمل ونشر المخططات للمشروعات المقترحة، قبل توجيه الأوامر لذوات الإحساس البارد من الجرافات، فليس من جرف وقطع كمن قرأ وكتب!

drbmaz@