ياسر عمر سندي

ضعف القوة وقوة الضعف

الأربعاء - 07 أغسطس 2019

Wed - 07 Aug 2019

خلقنا رب العزة في ضعف أزلي متواصل لتلبية احتياجاتنا بالتكامل، ولسد النقص والقصور الحاصل، وفي قمة ضعفنا أوجد معنا سبحانه وتعالى منعة نفسية وتحصينا مجتمعيا من ذلك الضعف لسببين، أولا لتحقيق التوازن البشري، وثانيا لنتأرجح بين جناحي الخوف والرجاء بين يدي خالق الأرض والسماء، قال تعالى «ويرجون رحمته ويخافون عذابه» الإسراء الآية 57، وحالات الضعف التي تطرأ على الإنسان، سواء على شخصيته أو على حياته، ما هي إلا خبرات تراكمية تعمل على بناء حائط صد رفيع وتكوين خط دفاع منيع، فتارة يضعف وأخرى يقوى ومرة يتخلخل، وفي النهاية يستدرك ذلك ويتجاوزه.

ومن وجهة نظري النفسية والسلوكية أرى أن الله عزز ضعفنا البشري بقوتين داعمتين، حيث تبدأ بقوى تنبع من ذواتنا ودواخلنا لتنتشلنا حال افتقادنا للتوازن والسقوط، وأخرى تساندنا كقوى خارجية لتنقذنا من التراخي والهبوط، من خلال دورتين رئيستين يمر بهما الإنسان في حياته، الأولى دورة الضعف القوية، والثانية دورة القوة الضعيفة، فتبدأ الأولى من حالة الاستقرار الكامن للنطفة في كينونتها إلى أن تصل للعلقة في تكوينها وتنتقل للمضغة في تخلقها، ومن ثم إلى مرحلة العظام واكتسائها إلى نهاية تشكلها، قال تعالى «وقد خلقكم أطوارا»، نوح الآية 14، وجميعها محطات تمثل الضعف من فوقه ضعف، وفي باطن هذا الضعف قوة تبدأ من الرحم بتهيئة مقومات الحياة للجنين وحمايته من الطبيعة الخارجية كالضوء والحرارة والبرودة وغيرها من المنغصات البيئية. وفي تلك الحالة من الضعف تتقوى الأم بشعورها الوجداني وإيمانها الرباني بأن الكائن القابع في أحشائها أمانة يحتاج إلى تقوية فتتغذى على أفضل الأطعمة والمشروبات، وتحافظ على نفسها وتعزز من جسدها لتستعيد عافيتها، وهي في هذه المكابدة المرحلية تكون في قمة ضعفها الفسيولوجي ووهنها الجسدي وتذبذب شعورها النفسي، ليأتي دور المساندة الخارجية من المحيطين بها، وأولهم الزوج ليقوي حياتها بالسعادة والأمل ويبعد عنها التعكر والملل، ويدعمها بالاحتواء والاحتضان والاطمئنان، ويشاركه في ذلك الطبيبة أو الطبيب المسؤول عنها وعن جنينها في كل مراحل حملها، والمقربون من أسرتها حتى يخرج وليدها من ظلمات الرحم وضعفه إلى أنوار الحياة وقوتها.

وحالة الكراهة التي تشعر بها الأم سببها التغيرات الهرمونية والتقلبات المشاعرية التي تشعرها بالضعف والتراخي لمدة قد تستمر إلى تسعة أشهر أو أقل من ذلك، وفي آخر المطاف تصل لقوة الضعف لتلد الضعف من القوة، فالولادة ضعف والمولود ضعيف وخروجه إلى الدنيا بقوة ليصبح بعدها ضعيفا يلجأ إلى قوة أمه وغذائها ليتقوى من حليبها المتكامل لمدة عامين ليشتد عوده، قال تعالى «حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا» الأحقاف الآية 15، فالوالدان يتقويان بمشاهدة وليدهما وهو يعيش مراحل ضعفه ليصل إلى دورة الحياة الثانية، وهي قوته وشبابه وعنفوان اندفاعه، ويبدأ معه الضعف الوالدي في التربية والتوجيه لقرة عينيهما بتعليمه وتلقينه ومشاركته وتهذيبه والاستثمار فيه بكل ما يملكان، بل ويؤثرون على أنفسهم لإرضائه، وهنا يكمن سر الضعف الأبوي وهو العجب والافتتان تجاه ذريتهم، فالأبناء لا يدركون سر تعلق الآباء وخوفهما عليهم وعلى مستقبلهم، فأحيانا يتصرف الأبناء بحماقة القوة الجبرية تجاه احتياجاتهم الحياتية غير الضرورية، ويواجه الآباء ذلك التصرف بسلوك الحائر الضعيف لتلبية احتياجاتهم، فتتنامى أعباؤهم وهمومهم إلى ما بعد انتهاء رسالة الآباء التربوية، لتبدأ مرحلة الشيخوخة والاحتياج الوالدي لبر الأبناء لهما والرحمة لحالة الضعف النفسي والجسماني التي يعيشانها، أحدهما أو كلاهما.

وهنا يكمن المحك الأكبر، فمن الأبناء من يحفظ الجميل ليتعامل مع رد الجميل ببذل الأجمل، ويعيش حالة الانكسار والضعف بخفض الجناح لفعل الكريم من القول والعمل أمام هذا الضعف الوالدي المتطلع لجرعات القوة وشد الأزر لما تبقى لهما في دورتهما الحياتية الأخيرة، فسبحان من أضعفنا ليقوينا ومن ثم قوانا ليضعفنا.

قال تعالى «الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير»، الروم الآية 54.

@Yos123Omar