ياسر عمر سندي

الصندوق الأسود.. الموجود والمفقود

الأربعاء - 29 مايو 2019

Wed - 29 May 2019

لكل منظمة من المنظمات العصرية، سواء كانت خاصة ربحية، أو عامة خدمية، أو مختلطة حكومية بنظام خاص، تتبع في سياستها وتخطيطها الاستراتيجي وتكتيكها التنظيمي، مجموعة من المعايير لمن يتولى قيادتها ويؤول إليه الأمر في توجيه دفتها، ومن هذه المعايير الخبرة والمعرفة والعلم والمؤهل، إضافة إلى الولاء والانتماء اللذين يغرسهما التنفيذيون في نفوس الموظفين، وفي علم النفس التنظيمي يوجد ما يسمى «العقد النفسي» Psychological Contract الذي يركز في الدرجة الأولى على العنصر البشري، وهم الأساس المعرفي والوقود المحرك للعمل والمنظمة.

ومن وجهة نظري السلوكية أرى أن العقد النفسي هو «مجموعة من التوجهات والاعتقادات والالتزامات والتصورات القيمية التي تبنى في اللاشعور للموظفين. وطرفا هذا العقد هما المنظمة والموظف، والذي يستشعر فيه الأخير مدى قدرة الأول على المحافظة عليه وإكرامه واستبقائه وتلمس حاجاته، ومهما مرت المنظمة بمطبات هوائية مخلخلة فإنها تستطيع بالتزامها العقدي من خلال قياداتها المشرعة للأنظمة واللوائح والمعنيين برسم الخطط وصنع القرارات أن تستعيد التوازن النسبي للمنظمة، وتعزز مكانة رأس المال البشري كمورد أولي، والإيفاء بوعودها الملموسة والواضحة التي تقدم المصلحة العامة وتلبي متطلبات واحتياجات الموظفين من غير تأليف ولا تحريف ولا تزييف في لوائحها وقراراتها، والخروج بصورة ذهنية نزيهة ترفع مكانة المنظمة أمام عملائها من خلال موظفيها».

والعقد النفسي في رأيي يتنامى ويشتد عوده وتقوى شوكته لدى من يطلق عليهم «الموجودات التنظيمية»، وهم رأس المال البشري الذين أسسوا الصرح التنظيمي وحملوا على عاتقهم المحافظة على سمعته ومقدراته، بل ورفعة كيانه جراء مفهوم «رأس المال النفسي» الذي يمثل رأس المال الرابع من مكونات المنظمة الاستراتيجية الرئيسة، فهناك رأس المال البشري والمالي والمادي، بالإضافة إلى النفسي، والذي يتكون من معيارين رئيسين هما أولا الوضوح في التعاملات وثانيا الصدق في القرارات، فمنذ استقطاب الموظفين وتعيينهم ومن ثم تدريبهم اكتسبوا المعرفة اللازمة وتنامى لديهم الولاء بما لديهم من تطلعات كبيرة ينتظرونها من المنظمة من خلال تحقيق أمنياتهم الوظيفية التطويرية من أوجه عدة كالرواتب والأجور والبدلات والترقيات والحوافز والمكافآت العينية والمادية والتدريب وغيرها، والتي شكلت ذلك العقد الوثيق في نفوسهم.

وفي حال الإخلال به باتباع سياسة الضبابية التنظيمية وقلب الحقائق ومحاولة التهرب من الوفاء بالوعود يصاب الموظفون بخيبة أمل كبيرة تنتج عنها آثار سلبية تصيب نفسياتهم ليحل الإحباط مكان التفاؤل والثقة. وتفاجأ الإدارة العليا تدريجيا بالانتكاس السلوكي وانخفاض الهمة والعطاء المترتب على انفكاك ذلك العقد المتين الذي أخذ شرعيته من قوة الولاء والانتماء تجاه المنظمة، وبالتالي تتدنى الروح المعنوية وينخفض الرضا الوظيفي ويزول الالتزام، وتتحول الموجودات إلى مفقودات بالتسرب الوظيفي وظهور معدلات الدوران المرتفعة من ترك للخدمة وتشويه للعلامة التجارية الراسخة في نفوس الموظفين والمتعاملين مع المنظمة.

ويعتبر العقد النفسي عاملا استراتيجيا مهما، إذ يستطيع صانعوا القرار من خلاله رفع درجة الأداء إلى الحد الأقصى، وعلى النقيض يسبب فسخه فقدا لكيان المنظمة وخسارتها، وفي عدد من الدراسات التي أجريت على الموظفين مثل دراسة «Song» عام 2016 بعنوان «كيف يتفاعل الموظفون مع انتهاك العقد النفسي؟»، ودراسة «Ballou» عام 2014 بعنوان «آثار خرق العقد النفسي على نتائج العمل»، ودراسة «Wan» عام 2013 بعنوان «أثر خرق العقد النفسي على سلوك موظفي الطيران»، والتي أعطت جميعها مؤشرات إيجابية عالية تجاه ما تقدمه الشركات من تقدير واحترام للموظفين وتوقعات مثلى من خلال الالتزام بالعقد النفسي، وأيضا أعطت مؤشرات متدنية تمثلت في سلوك الترك والرفض والانكماش والعزوف الوظيفي بسبب انتهاك العقد النفسي.

وأرى أن لكل منظمة صندوق أسرارها الخاص والمملوء بالإبداعات والكنوز المعرفية الكامن داخل رؤوس أموالها البشرية، وفي حال إهمال حق الموظفين وعدم تقديرهم والإخلال بعقودهم النفسية سيؤدي ذلك حتما إلى كارثة سقوط مأساوية للمنظمة، وتحول الكنز الموجود إلى الركام المفقود.

Yos123Omar@