عبدالله الأعرج

حينما يكون العطاء الرمضاني منعا!

الاحد - 12 مايو 2019

Sun - 12 May 2019

لا يخفى على كل مسلم قيمة العطاء في كل وقت، ومدى تفرده وجماله في شهر الله المعظم (شهر الصيام)، وما إن يولد هلال شهر رمضان الكريم كل عام حتى نجد أنفسنا الخيرة على موعد مع دعاة الخير يندبون الناس ويشجعونهم على تفطير الصائم وإطعام الجائع وسد رمق العطشان، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يختلف عليه أحد كقيمة جليلة، شريطة أن يكون الإطعام للجائع والعطاء للمحتاج والفقير والمعوز.

وبحديث أقرب للفهم فقد طالع كثير منا مع مستهل شهر رمضان ومن خلال وسائل التواصل أكواما من الطعام والشراب التي أعدها المحسنون للصائمين وهي ترمى في صناديق المهملات، دون أن يفتح بعضها فضلا عن أن تؤكل، مما يظهر بجلاء وجود أزمة فكرية لدى المعطي حول لب وجوهر العطاء الذي يعول عليه تكاتف المجتمع ونشر المحبة وزرع قيم الأخوة ووضع الأمور في نصابها وتقنين قيم الإنفاق الموجه ونشر عادات العمل الخيري الممنهج، وغيرها كثير.

مقاطع فيديو لمثل هذه الأطعمة بالأمتار يزج بها في حاويات النفايات تعكس مأزقا حقيقيا لمن يعتقد أن الإحسان سيكون بهذه الطريقة في عالم تبلغ فيه اليوم نسبة الفقر والجوع معدلا فاق 1.3 مليار شخص، معظمهم أطفال ينتشرون في 104 دول من المحيط إلى المحيط، جلهم يقطن أرياف وسط وجنوب أفريقيا وآسيا!

سيكون العطاء منعا إذا لم يبذل فيه الوقت اللازم لتحري المستحق والبحث عن المحتاج والعناء من أجل كشف أهل العوز الحقيقي، وسيتحول حينها إلى وضع الشيء في غير موضعه، حيث إنه من غير المقبول إطعام الشبعان وتدليل المكتفي وبسط اليد للقادر في ظل وجود من أعياه التفكير لإيجاد لقمة اليوم، وأشغله البحث عنها عن كثير من أمور دينه ودنياه!

وسيكون العطاء منعا حينما تتحول الموائد الممتدة طولا وعرضا إلى مصدر لنشر الأوبئة وانتشار الأمراض، نتيجة إهمال الفائض منها بعد استهلاك جزء منها وتحولها إلى مصدر لاستنزاف طاقات عمال النظافة وزيادة كدحهم وساعات عملهم ومنعهم من ممارسة حياتهم وعباداتهم في الشهر الكريم لمواجهة ما يلزم من أعمال التنظيف والتطهير والنقل!

وسيكون العطاء منعا حينما يتحول إلى عمل غير منظم بحيث يقدم كل (محسن) كل ما لديه دون تنسيق مع محسن آخر، لينتهي الأمر وقد أعطي من يكفيه رغيف واحد عشرة، ومن يحتاج عصيرا واحدا خمسة، فيتحول كامل الموقف إلى هدر اقتصادي واستنزاف مالي غير مبرر، وخلق أزمة شرائية مقنعة تأخذ من مفهوم الإحسان ذريعة لأزمة الألبان ونقص بعض السلع من بعض المحلات التجارية!

وسيكون العطاء منعا حينما ينشأ جيل جديد من أطفالنا على ما كان عوده أبوه، فتراه يفاخر بالعطاء بمفهوم الكثرة والوفرة لا بمفهوم الحاجة والأحقية والعقلانية، مما ينذر بتواصل دوران عجلة خطيرة على المدى البعيد في عالم يعج بالمتغيرات، وفي ظل قيم وطنية عليا تدعو للترشيد في الإنفاق وتعلم سياسة الادخار وتنمية جيل جديد واع ومتحضر ومتوثب نحو القيم الدينية والعالمية والإنسانية في هذا الشأن!

ولكي يبقى العطاء مفهوما ساميا جميل المعنى خفيف المحمل محبذا فإنني أعتقد أنه من الضروري أن يعاد النظر فيما يقدم من أشكال الإطعام خلال شهر رمضان تحديدا، ليتوافق مع هذه القيمة، وأن يكون للجهات الرقابية في هذا المضمار عمل أكثر دقة يتم من خلاله إنشاء منصة لتقديم طلبات تفطير عدد محدد من الصائمين في الأماكن العامة والساحات التي يقصدها المعوزون، ويتم بموجب هذا الطلب مشاركة قاصد الخير بشيء من ماله لتغطية أعمال ما قبل وبعد الإفطار من التنظيم والتطهير والتنظيف وإخلاء المكان.

هذا الأمر الذي سيصنع فرقا في مفهوم العطاء، ويحيله إلى جهد مبارك يحمل - بإذن الله - الأجر والمثوبة للمحسن، ويمنع ما قد ينتج عنه من أضرار جانبية، وسيعكس حينها عطاء حقيقيا يجمع في جوانبه إرادة الخير وإدارته على الوجه الأكمل، وطوبى للمحسنين!