فهيد العديم

خالد الفيصل الاستثناء

الثلاثاء - 30 أبريل 2019

Tue - 30 Apr 2019

الكتابة عن خالد الفيصل تجعلك بالفعل تكتب عن »مجموعة إنسان «، فأنت تكتب عن الأمير ذي الكاريزما الفيصلية التي لا تخفى على أحد، وفي الوقت نفسه تكتب عن الإداري الحازم الذي يستطيع أن يجعل من الميدان مكتبا، كما يجعل من مكتبه ميدانا، وتكتب أيضا عن المبدع والأديب المختلف الذي طالما جعل من القصائد لوحات فاتنة، مثلما يجعل اللوحات قصائد ترتب موسيقاها بحور الخليل.

من الطبيعي جدا أن تشعر بالارتباك عندما يكون الحديث عن هذه القامة، فكيف تجعل القلم يكتب عن سيد القلم؟ وكيف تتحدث عن علم من أعلام البيان والمعاني؟

عبقرية شعرية متفردة

من اللافت في تجربة الفيصل الشعرية أنه كان حاضرا في قمة الصراع بين التقليدية والحداثة. كانت الصحافة هي ميدان المعركة التي امتدت في بعض الفترات وتعدت كونها صراعا أدبيا، ووصلت لمرحلة صراع فكري بين تيارات تلك المرحلة، ومع أن الفيصل كان من أبرز شعراء تلك المرحلة إلا أنه لم يدخل ذلك الصراع، بل حتى إن المتلقي لم يصنف الفيصل حداثيا أو عاميا، فبقي حالة شعرية لا تشبه أحدا ولا تنتمي إلى أحد.

لم يتشبث بالطريقة التقليدية بتناول المواضيع في القصيدة العامية، مثلما لم يغره الإيغال في التحديث الذي كان يروج له الإعلام في تلك المرحلة، بقي يكتب قصيدة خالد الفيصل التي لا تشبه أحدا، كان ولا زال مثالا رائعا للأصالة، إذ شذب القصيدة العامية من زوائدها المثقلة بالتقليد، كأن يتخلى عن المطالع والاستهلالات التي رافقت القصيدة العامية زمنا طويلا، وفي الوقت نفسه لم يتخل عن روح القصيدة وأصالتها، إنما ضخ فيها كثيرا من الموسيقى وكأنه يقدم للمغنين الذين تعاملوا فيما بعد مع نصوصه خدمة جليلة، إذ لا يحتاجون سوى قليل من الجهد ليكتشفوا اللحن الكامن داخل الأغنية.

لغة بيضاء

وفي الأغنية تحديدا هو لا يكتب كلمات صالحة للغناء، لكنه يكتب قصيدة متكاملة تنجح كأغنية فيما بعد، وهذا يمكن تمييزه على النحو التالي: كثير من الشعراء الغنائيين تنجح كلماتهم كأغنية، لكن لا يمكن أن يستسيغها الجمهور عندما يلقيها شاعرها في منبر أو أمسية، لأنها كتبت أصلا كي تغنى، فلا تكتمل إلا بعد وجود اللحن والموسيقى والفنان المؤدي، بينما الصعوبة تكمن في أن تكتب قصيدة كنص مستقل وتنجح ثم بعد ذلك تتحول القصيدة إلى أغنية وتنجح كأغنية أيضا.

وهنالك بعض الشعراء كتبوا قصائد رائعة، لكنها فشلت عندما تحولت لعمل فني، لهذا ظلت عبقرية خالد الفيصل في هذا المجال تستحق كثيرا من التوقف، وكثيرا من الدراسات النقدية الجادة، ولهذا يعد من اللافت غياب الدراسات النقدية الجادة عن تجربة خالد الفيصل الشعرية رغم اكتمال تجربته الأدبية وتفردها في العالم العربي. أقول العالم العربي لأنه كتب بلغة بيضاء يفهمها العربي من الخليج إلى المحيط دون أن يلحظ صعوبة في المفردات، الأمر الآخر وهو أمر يستحق التوقف، أن قصائد الفيصل تحتفظ بجديتها على مر الأزمان، فكثيرا ما تسمع الشباب من الجيل الجديد يرددون أبياتا أو مقطعا من أغنية وهم منتشون به دون أن يدركوا أن هذا الشعر كتب قبل عقود، بل إنهم يشعرون أنه كتب بلهجتهم ولشعور جيلهم.

ولا شك أن القارئ الكريم تبادر إلى ذهنه الآن أكثر من أبيات، سواء من الأغاني أو مما تحتفظ به ذائقته من إبداع الفيصل، وهنا أتذكر قصيدة (ارفع رأسك أنت سعودي):

ارفع راسك أنت سعودي

غيرك ينقص وأنت تزودي

مالك مثيلٍ بالدنيا

غيرك ينقص وأنت تزودي

فارس واجدادك فوارس

وأصبحت لدين الله حارس

مغروسٍ بالمجد وغارس

في ميدان العز شهودي

ففي هذا النص على سبيل المثال نجد أن الشطر الأول من النص أصبح يجري على الألسن مجرى الأمثال، فعند كل إنجاز يتحقق للوطن تجد المواطن يردد هذا الشطر دون أن يدرك من هو كاتبه، ولهذا أصبح هذا الشطر خالدا في ذاكرة الناس، وسيبقى كذلك، وأثق أنه بمجرد قراءة الشطر الأول تجد القارئ (دندن) لا شعوريا بلحن الأغنية، وهذا يعيدنا لما قلناه سابقا بأن القصائد العظيمة تخلق لحنها معها، ولا يحتاج الملحن سوى لقليل من الفطنة لكشف هذا السر الشاعري. وأتذكر أنني سمعتها ذات صباح عند مروري عند أبطال الجيش العربي السعودي وهم يرددونها ويفصلون بين أبياتها بزئير يجعلك تشعر بعمق الكلمات.

الشجاعة الأدبية والعمق

ملمح آخر يستحق التوقف عند تجربة الأمير الشاعر خالد الفيصل بن عبدالعزيز أو (دايم السيف) ذلك الاسم الذي كان يوقع به قصائده في بداياته الشعرية، الملمح المهم الذي أقصده هو الشجاعة الأدبية، وهي تتجلى في أكثر من موقف في تجربة الفيصل الشعرية، ولعل من أبرزها قرار الإعلان عن هوية الشاعر دايم السيف، هذا يعني أنه لم يتخل عن تلك القصائد التي كانت في بداياته الشعرية، والأمر الآخر هو الجرأة بدمج الكلمات الفصيحة والعامية في نص واحد، رغم الحساسية التي تصل أحيانا لدرجة التوجس، بل والقطيعة أحيانا بين أهل الفصحى ومحبي العامية، ويتجلى ذلك في قصيدة «هبوب» التي منها:

غايتها دولة مدنية

علمانية لا دينية

إلا الدولة الصهيونية

لازم تبقى يهودية

أما الدولة الإسلامية

هذي دولة إرهابية

من يعرف تجربة الشاعر خالد الفيصل يثق تمام الثقة بأن الكتابة بهذه اللغة الموغلة في بياضها، وطرح الأسئلة بشكل واضح ومباشر لم يكونا ترفا لغويا، بل حتى عندما أخذ يد اللحن وسلمه لكفوف السجع كان يقصد ذلك بالتأكيد، فلم يكن يقصد أن يكتب قصيدة نخبوية يفهمها أصحاب الذائقة النخبوية وأساتذة النقد، ومحبو الكناية والمجاز، بل كانت ظروف كتابة القصيدة وموضوعها تتطلب أن تكون واضحة تحمل رسائل يفهمها المواطن العربي البسيط، كما يدرك أبعادها السياسي الجهبذ، وهذه شجاعة من شاعر له تجربة متقدمة، وله حضور رائع في الذاكرة الجمعية العربية المعاصرة، وعادة كلما تقدمت تجربة الشاعر تجده - أي الشاعر- يحاول، بل ويجهد نفسه، في المحافظة على صورة تجربته في ذهن المتلقي، لكن خالد الفيصل في هذا النص - وعدد من النصوص المشابهة - اختار أن يصدم القارئ، وهي صدمة مقصودة ومباغتة، وكأنه يريد أن تشعر أنك أمام نص ينبغي أن لا تقرأه بعاطفة فقط كما هي عادة الشعر، وعادة متلقي الشعر، بل أنت أمام أسئلة مفتوحة ينبغي أن تجهد نفسك لمحاولة الإجابة عنها، فالشاعر لا يريدك مجرد متلق للنص بقدر ما يدعوك لأن تشاركه بالتفكير، وتستشعر معه الخطر الذي نبهك إليه، ليس تنبها بالقول، بل جعل الشعر ذاته يقوم بهذه المهمة، وكأن وزن القصيدة الذي يأتي قصيرا ومدببا وحادا؛ وكأنه يقول لك: انتبه أنت لست أمام مجرد شعر!

إكسير الخلود

لا أعتقد أن شاعرا عربيا أو غير عربي أصبحت كلمات قصائده تجري على ألسنة الناس وكأنها كتبت لمناسباتهم، أقول لا أعتقد أن شاعرا حاز السبق كما حازه صاحب السمو الملكي الشاعر خالد الفيصل، وكي لا يكون كلامي مجرد كلام مرسل فإنني لن أبحث في قصائد خالد الفيصل لأثبت لك الكم الهائل من الأبيات أو حتى شطر من بيت أصبح الناس يتداولونه كأنه حكمة أو مثل أو شاهد على حالة أو حادثة، لذا سأعتمد على الذاكرة، ليس عجزا أو كسلا عن البحث، إنما لأنني أجد أن الاعتماد على الذاكرة دليل على اعتقادي، مع يقيني أن ذاكرتي ليست بعيدة مدى، فمن قصائد الفيصل مثلا: (يا مدور الهين ترى الكايد أحلا)، فأعتقد ألا تمر مرحلة بها تحد أو شحذ لهمم إلا ويحضر هذا الشطر، وكأنه محرض شرس للطموح والقمم، ولا يمكن أن يمر الإنسان في حالة من التشتت والتيه ويحاول لملمة شتاته مع

قالت: من أنت؟

وقلت: مجموعة إنسان

من كل ضد وضد تلقين فيني

ولا يمكن أن ترى خيلا جامحة إلا وتغني دون وعي (من بنات الريح لي صفرا جفول)، ولا يمكن أن ترى الحضيض الذي وصل إليه حال الأعداء، وترى تملقهم ومحاولة خداعنا دون أن نتذكر

ما ينسينا الخطا حب الخشوم

ولا يطهرك المطر عشرين عام

وببساطة أعمق، وأكثر قربا للروح قد يصارحك أحدهم بشعوره (بضيقة) فتجد نفسك تواسيه بـ:

يا ضايق الصدر بالله وسع الخاطر

دنياك يا زين ما تستاهل الضيقة

ولا يمكن أن يكون الحديث عن نجد دون أن تحضر الأغنية

ليالي نجد ما مثلك ليالي

غلاك أول وزاد الحب تالي

يا إلهي، اكتشفت الآن أن خالد الفيصل فعلا ليس مجرد شاعر مبدع، بل إنه يشاركنا كل لحظاتنا. الشعراء كثر، لكن الفيصل يأخذ قارئه من قارعة الاستماع والاستمتاع فيحوله لشاعر يجيد (طواريق) الشعر، ودروب (الموسيقى)، وأظن أن هذا لم يتحقق لمبدع من قبل، أقصد أن ينقلك المبدع من كونك متلقيا للإبداع أو الفن إلى كونك جزءا منه، أن يجعلك تشاركه لحظة الألم والفرح، تشاركه لحظة الكتابة ولهفتها، فتجده كتب عن كل حالة تمر بها وتعيشها، والأمثلة أعلاه هي غيض من فيض كما يقال. اعتمدت فيها على ذاكرتي فقط بشكل سريع، وأجزم أن كثيرين مثقلون بحمولات لشوارد وأبيات، بل وقصائد للفيصل يشعر كل متلق لها أنها كتبت له شخصيا، وكما أسلفت كأن كل قصيدة كتبت لمناسبة لنا، سواء وجدانية أو طنية، كما هو الحال مع قصيدة (ارفع رأسك أنت سعودي) التي أصبحت كأنها نشيد للتحفيز والعمل بهمة كي يبقى رأس المواطن عاليا كعلو الوطن، بل إنها أصبحت كأنها وصية يسلمها الآباء للأبناء، وكأنه الأب عندما يريد أن يودع ابنه ويوصيه على وطنه يختصر كل ذلك بقول (ارفع رأسك أنت سعودي)، فهذه الجملة تحمل كثيرا من الدلالات التي يفهم أبعادها المتلقي من كل الأجيال، وكأنها كتبت ليكتب لها الخلود للأبد، وكأنها إكسير الخلود الذي يحرص الآباء على نقله للأبناء ليبقى - بحفظ الله - الوطن دائما بخير ومجد وفخر.

عصارة التجربة

يحسب لصاحب السمو الملكي الأمير الشاعر خالد الفيصل بن عبدالعزيز أنه أول من كتب سيرته الذاتية (الإنسانية) شعرا من خلال تدوين كل عقد من عمره بسيرة شعرية مختصرة عبارة عن قصيدة. في هذه القصائد لا يعطيك تفاصيل وأسرارا عن حياته، إنما يعطيك مفاتيح ويترك لك طريقة اكتشاف الأبواب واختيار ما يناسبك، في هذه القصائد يختصر قلقه وألقه، أناته وآهاته، كل ذلك في ومضات خاطفة، وهذا هو الشعر الحقيقي، ذلك الذي يخبرك عن دروب الحب، لكنه لا يعلمك كيف تحب، ويشير لك على الطريق المؤدي للنجاة لكن لا يقرر بالنيابة عنك كيفية اختيار الطريق، هو فقط يخبرك عن الوجهة، ولعل إطلالة سريعة على أنموذج لهذه القصائد الغارقة في بياض وسماحة إنسانيتها تبين ذلك:

يا مرحبا بك يا ثمانين عمري

لو ما هقيت إني أشوفك وانا حي

تناسلت شعرات الأيام تجري

وابيضت السودا على ضامي الري

الشمس تمضي، وأنجم الليل تسري

وكل شيءٍ صار في عيني شوي

أبحث عن اللي يرفع الراس واسري

ما اشغلت نفسي بالملذات والغي

السيرة الذاتية عادة ما تكون تدوين مرحلة، أو تجربة، لكن عند خالد الفيصل نجد قصيدته عبارة عن ملخص لتجربة حياتية، أي أنه لا يصف لك تجربته بالحياة، لكنه يعطيك عصارة التجربة، وما يميز خالد الفيصل أنه يوظف الفنون كلها لصالح الشعر، فعلاوة على حضور الموسيقى الطاغي في قصيدته، تجد حضورا لنَفس السارد في كثير من نصوصه، مما يشكل عامل جذب للقارئ، ونقله لداخل النص ليشكل جزءا منه وليس متلقيا له فحسب.

الكتابة عن خالد الفيصل تجعلك بالفعل تكتب عن »مجموعة إنسان«، فأنت تكتب عن الأمير ذي الكاريزما الفيصلية التي لا تخفى على أحد، وفي الوقت نفسه تكتب عن الإداري الحازم الذي يستطيع أن يجعل من الميدان مكتبا، كما يجعل من مكتبه ميدانا، وتكتب أيضا عن المبدع والأديب المختلف الذي طالما جعل من القصائد لوحات فاتنة، مثلما يجعل اللوحات قصائد ترتب موسيقاها بحور الخليل.

من الطبيعي جدا أن تشعر بالارتباك عندما يكون الحديث عن هذه القامة، فكيف تجعل القلم يكتب عن سيد القلم؟ وكيف تتحدث عن علم من أعلام البيان والمعاني؟

إبداع نادر

ولا شك أن الإيغال في تجربة الفيصل ممتع ومخيف في الوقت نفسه، وكأنك توغل في غياهب المحيط، فبقدر متعة الاكتشاف تكون محاصرا بالغرق، ولا سيما أننا أمام تجربة كبيرة وعظيمة، فنحن أمام شاعر رقيق في القصائد الوجدانية والغزلية، شاعر يداعب الغيم، ويلاعب السحاب، ويرتب نجوم السماء عقدا زاهيا يليق بالمحبوبة، وفي الوقت نفسه نحن أمام شاعر صارم، وحاد جارح كسيف عندما يوجه سهام قوافيه لأعداء الوطن، مثلما نحن أمام مفكر كبير عندما يتطلب الأمر أن يكون الشعر على هيئة تفنيد حجة أو مبارزة منطق. والفيصل من الندرة الذين أبدعوا في الشعر رغم عدم تفرغهم له، ومن عرف الفيصل (الإداري والسياسي الكبير والمهم) قد تنتابه الدهشة كيف استطاع أن يجمع بين النجاح الإداري والأدبي ويتميز بكليهما، فالعادة جرت أن هنالك شعراء مبدعين لكن لم يعرفوا كمبدعين في تخصصاتهم أو أعمالهم، والعكس أحيانا، مبدعون في تخصصاتهم لكنهم شعراء عاديون. الندرة فقط على مستوى العالم من استطاعوا أن ينجحوا في العمل الإداري والأدبي بذات الوقت، فالفيصل أصبح مُلهما للشباب السعودي بشخصيته الاستثنائية المتفردة شاعرا ورساما وإداريا ومتحدثا بارعا، واستمر تأثيره ليس فقط على مجايليه، بل تعدى ذلك ووصل تأثيره كملهم للأجيال الجديدة في مراحل حياتهم الأولى، فالطبيعي أن تجد شخصية ملهمة للشعراء وأخرى للفنانين وثالثة للتربويين، لكن الاستثناء صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل أصبح ملهما لكل هؤلاء، بل لكل صاحب همة، فهو أيقونة الطموح والتجديد والتطور الواعي، سواء للمبدعين في المجالات الفنية والأدبية أو لمن تشرفوا بالعمل في معيته في إمارات المناطق حيث له في كل شبر من تلك الأماكن بصمة وحكاية، له في نهارها عرق العمل والإنجاز، وله في ليلها قصائد طويلة تشهد على أن بصماته في الأرواح كما هي في الأماكن.

@Fheedal3deem