أحمد الهلالي

إدارة الأفكار في الجامعات!

الثلاثاء - 23 أبريل 2019

Tue - 23 Apr 2019

تأتي هذه المقالة لإضاءة جانب من المسكوت عنه في بيئاتنا الجامعية، فالجامعة مؤسسة عملاقة تحوي مئات العقول المصقولة علميا، ويرى أغلب أساتذتها أنه جزء مهم في جامعته، ولأنه كذلك فإن ذهنه لا يكف عن التفكير في تقديم فكرة تطويرية للجامعة، أو مؤسسات المجتمع، وكل هذا محمود، لكنه يصطدم بحواجز شبه فولاذية، تتحطم على صلابتها الأفكار وأصحابها.

تبعا لهيمنة ذهنية (الحزبية) داخل الحرم الجامعي، وتبعا لثقافة (المنصب) فإن أفكار أعضاء هيئة التدريس تواجه عقبات شتى، فالأستاذ الجامعي يقدم فكرته مفصلة إلى مجلس القسم ثم تتدرج حتى تصل مجلس الجامعة، لكن ثمة صوارف مختلفة تصرف العضو عن هذا، ويظل يفكر في تلك الصوارف والعراقيل أكثر من تفكيره في الفكرة التي ابتكرها لتطوير جامعته أو مجتمعه.

أولى الصوارف هي البيروقراطية بإجراءاتها وعقباتها، ثم تأتي خشية عضو هيئة التدريس من أن يدخل في فكرته آخرون لم يجهدوا عقولهم في التفكير أصلا، فيكون عقله سُلّما للمتسلقين، ثم تنشأ في مخيلته سيناريوهات أخرى حين يقف في طريق فكرته أحدهم لموقف شخصي، أو يتسلط عليها قيادي متوجس يرى في تميز الآخرين تهديدا لمكانته، أو تحول الحزبية دون وصول الفكرة كما بناها أول مرة، بتحريفها، أو تأويل نوايا صاحبها، أو الإيحاء بتقليديتها أو تكرارها، أو عدم جدواها، فتُغتال في الطريق البيروقراطي الطويل قبل وصولها إلى صاحب القرار، الذي تُفترض فيه النزاهة ليحيلها إلى مجلس الجامعة.

ومن الصوارف أن يسطو أحد المتنفذين على فكرة عضو هيئة التدريس فيسرقها ويجيرها لنفسه، فقد حكى لي صديق من جامعة ما، أنه تقدم بفكرة مكتوبة في أحد الاجتماعات فرفضت، وبعد شهرين جاءته فكرته نفسها، فقد سرقها قيادي في الجامعة وعدل عليها وأضاف بعض الرتوش، وفوق هذه الوقاحة طالبه السارق بتنفيذ فكرته المنهوبة، بعد اعتمادها على أنها من بنات أفكار السارق القدير، وهو المشرف عليها!

تلك الصوارف والعراقيل جعلت الكثير من أعضاء هيئة التدريس يحجمون عن تقديم أفكارهم، وجعلت بعضهم يتجاوز القنوات المعمول بها ليذهب بفكرته مباشرة ويسلمها إلى مدير الجامعة، فيضيع بعضها هناك في زحمة أوراق المدير، وبعضها يُنسى في مشاغله، وقليل جدا ربما يرى النور، وبعضها يرفض دون رد لصاحب الفكرة عن أسباب الرفض، وكل هذا كفيل بإغلاق نافذة التفكير، فيصرف العضو طاقته في أشياء أخرى، ليست من بينها جامعته.

رؤية 2030 تقوم على فكرة الخروج من التقليدية والأفكار النمطية، والتخلص من أنساق البيروقراطية، ولأن الجامعات من أهم المؤسسات التي يجب أن تركز على هذا، وأن تبني في أعضاء هيئة التدريس فكرة العمل المؤسسي الحي، وأنهم جزء أصيل في مؤسساتهم، لذا فإني أرى أن أقرب الحلول لمعضلة ضياع أفكار الأعضاء أن تنشئ الجامعات إدارات خاصة للأفكار، وهي فكرة قدمت تصورها كاملا قبل أشهر إلى جهتين، إحداهما وزارة التعليم، من خلال خدمة تواصل على موقعها، ولم أتلق الرد بعد.

كل الموجودات في الحياة أفكار، والجامعة برأسها فكرة، فما المانع أن تنشئ الجامعات (إدارة الأفكار والمبادرات)، تستقبل أفكار ومبادرات الأساتذة، فتتأكد من جدتها وجدواها، ثم توثقها بأسمائهم، وتجدولها لتضع الفكرة وصاحبها أمام لجان متخصصة للمناقشة والتحكيم، تمحصها من كل وجوهها ثم تحيلها متكاملة إلى مجلس الجامعة، وتتابع إدارة الأفكار ما ينفذ داخل الجامعة، وما يرسل منها إلى مؤسسات وطنية أخرى لتنفيذه،

لتكون الجامعة وأعضاؤها مؤثرين ونافعين للمجتمع، وكم سيكون مفيدا اعتبار شهادة (إدارة الأفكار) الممنوحة لعضو هيئة التدريس بعد موافقة مجلس الجامعة على فكرته وحدة أصيلة أو مساعدة من الوحدات المطلوبة للترقية، ومثلها تنشئ (وحدة الأفكار) في عمادة شؤون الطلاب لاستقبال أفكار الطلاب، تحفيزا للأفكار والمفكرين، وحفظا لحقوقهم وتطويرا للجامعات والمجتمع.

ليس شرطا أن تنفذ الجامعات كل الأفكار المطروحة، لكن تحكيم وتوثيق النافع المميز منها، وتنفيذ الممكن، وتبيّن أسباب الرفض، وإحالة ما يخص الجهات الأخرى والمجتمع إلى الجهات المتخصصة، ستجعل الجامعة منارة فكرية منتجة، وسينعكس ذلك إيجابا على الأدمغة المتجاوزة المسكونة بشغف التفكير والابتكار، بدلا عن التهميش الذي يشكو منه كثيرون، فنحن في أمس الحاجة إلى الأدمغة المفكرة المنتجة، ودعمها والعناية بها من أهم ركائز الاستثمار لمستقبل الوطن وإنسانه.

ahmad_helali@