عبدالله الأعرج

تجميع الشهادات.. كفاءات أم استعراضات؟

الاحد - 31 مارس 2019

Sun - 31 Mar 2019

قبل أكثر من خمس سنوات كنت في مناسبة علمية، وكان يجلس بجانبي شخص من الحضور أوحى لي من حديثه أنه قضى ردحا مميزا من الزمن في العمل الحكومي، وأنه أصبح في سن تؤهله لنشر الحكمة وبذل النصيحة ووضع شوكة الميزان بدقة حول الصحيح والأكثر صحة والأصح!

ولأن المناسبة كانت آنذاك علمية فقد كنت مستعدا جدا للاستفادة من أي حديث جانبي حول خبرات الحاضرين وتبادل المشورة مع شيء من الجدل الصحي حين يلزم!

وأثناء حديثنا عن مفهوم الكفاءة في العمل علا صوت محدثي وارتخى وأزبد وأرعد، مؤكدا أن الدليل الأوحد لكفاءة الموظف الحكومي هو ما يكتنزه من شهادات حضور للمؤتمرات واللقاءات والورش المتخصصة، ثم أعقب بحركة خطافية سريعة في استخراج جواله من جيبه الذي يبدو أنه حشر بين كتلة كبيرة من المفاتيح، الأمر الذي استغرق بضع ثوان قبل أن يلتقطه جليسي، وينطلق في عرض بانورامي ليريني عدد الشهادات التي علقت بجدران مكتبه المنزلي، حتى إنني وللأمانة لم أر صاحبي في الصورة لكثرة ما أحاط به من دروع وشهادات من كل مكان!

وقبل أن أنبس ببنت شفة لأبدي رأيي حول الصورة، قال لي: هذه الشهادات حصاد السنين، وهي التي صنعت مني كذا وكذا، وجعلتني هذا وذاك، بل إنها خلقت من اسمي أيقونة في مجال كذا، وعرابا في مجال كذا، ثم ختم بعد أن ذهب شيء من حدته وغضبه الذي لا أعرف مصدره، ولا سيما أنه يفخر بمنجزاته بقوله «لكن العمل لا يعرف قيمة هذه الإنجازات»!

حينها زادت حيرتي ولم أعد أعرف هل جليسي في حالة فخر أم حالة قهر! هل هو متأكد أن هذا الأسطول من الشهادات لم يحظ بحقه من العناية أم إنه نال ما يستحقه ولكنه غاضب على من لم يقم بنفس عمله؟ سألته بعد أن أخذ رشفة من قارورة الماء التي أمامه: كم سنة قضيتها حتى اليوم في عملك؟ قال 25 عاما، قلت وكم مؤتمرا وورشة وحلقات نقاش حضرت؟ قال بالنص «عد وأغلط»! ثم أردف «يمكن 500»! أجريت حسبة بسيطة داخل رأسي لئلا يستشيط صاحبي غضبا، قسمت فيها 500 مؤتمر ودورة على 25 عاما فجاءت الحسبة صاعقة لي: 20 مؤتمرا بالعام!!

لم يعد للحديث حينها مكان، استأذنت صاحبي وانتقلت إلى مكان آخر وأمطرت نفسي بكثير من الأسئلة مثل: هل الملتقيات والمؤتمرات التي تصل لهذا العدد في العام الواحد أمر صحي؟ هل الانغماس في الملتقيات بهذه الشراهة ظاهرة صحية؟ هل هذه الملتقيات فعلا تناسب طبيعة العمل؟ هل المخرجات العملية لمن يحضر هذه المؤتمرات بهذا الكم تتناسب وحجم المدخلات؟ هل الخمسة عشر مؤتمرا التي حضرتها كامل حياتي الوظيفية والتي تقل عما حضره صاحبي في عام واحد أمر مثير للشفقة؟ وأخيرا: هل كل هذه الشهادات التي رأيتها فعلا مؤتمرات؟

لم أشأ أن أغرق بزيادة في هذا المحيط من التساؤلات الممزوجة بالدهشة تارة وبخيبة الأمل تارات! ولكنني وصلت إلى تسوية مع نفسي أن العبرة بالمخرجات لا بكثرة الشهادات!

أيقنت بعدها وأنا أتحدث في مناسبات مختلفة مع أشخاص مختلفين أن العلم الصافي والفائدة الحقيقية والإنتاج الفكري الرصين لا تضمنها ورقة إثبات حضور تظاهرة علمية ولا ينزعها غيابها!

أيقنت أن الفكر المتجدد والأداء المحكم يمكن أن يستقيا من روافد متعددة لا يلزم معها تعداد تظاهرات علمية يختلط فيها الغث مع السمين والمفيد مع المتواضع، تأكدت أن التظاهرات العلمية المحكمة وإن كانت واحدة فإنها تعدل المئات من تلك المهترئة.

أصبحت أيضا أكثر قناعة أن جهات العمل بحاجة ماسة لمراجعة قراراتها حول الترقيات بالدورات، والصرف على أي نوع من المؤتمرات دون معرفة ما يقدمه من مهارات وكفاءات، والتكريم للموظفين على أساس عدد الشهادات. أصبحت أكثر إصرارا على أن المؤتمرات والملتقيات كاملة الدسم تنعكس على أداء المنشأة وتتبلور واضحة في إبداع وبراعة من حضرها ولو لم يكن من ذلك سوى نقل الخبرة لمن لم يتمكن من الذهاب إليها، فلرب مبلغ أوعى من سامع.

dralaaraj@