عبدالغني القش

عالجوهم.. ولا تبالغوا في دياتهم!

الجمعة - 22 فبراير 2019

Fri - 22 Feb 2019

في كل يوم تطالعنا مواقع الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي بدعوة لسداد دية وبمبلغ مهول، والعجيب أن الظاهرة تتفاقم يوما بعد آخر، في مشهد غريب على مجتمعنا، وأمر في غاية العجب.

وقد انتشر مؤخرا مقطع لشخص يبدو أنه من رجال الأعمال وهو يقسم أنه لن يُقتاد أحد من أفراد قبيلته مهما بلغ المبلغ المطلوب حتى لو اضطر لبيع كل ما يملك، في سلوك مشين وكلام يترفع القلم عن وصفه!

ومن المؤسف أن الظاهرة تحولت لتجارة؛ فقد أخبرني من أثق بصحة كلامه أن قريبا له وقع له أمر من هذا القبيل، فكان أن طلب أهل القتيل مبلغ 35 مليونا، لتتم بعد ذلك المفاوضات وتصل إلى 15 مليونا!

لا أعلم تفسيرا لمثل هذه المساومات، ولا أدري كيف يزايد هؤلاء في طلب مثل هذه المبالغ الهائلة، وهم يعلمون يقينا أن أهل الجاني لا يملكون حتى الجزء اليسير منها، فالمبالغ وصلت لسقف كبير ربما إلى 50 مليونا، وربما تجاوز ذلك!

والأعجب أن يتم جمع المبالغ عن طريق حسابات بنكية، وبشكل رسمي بتدخل جهات حكومية، وهذا جعل الأمور تتزايد والمبالغ تكبر يوما بعد آخر، وتتفاقم الأمور لدرجة ممجوجة، وكأن الدين الإسلامي دين مزايدات فيما يتعلق بالدماء.

وهنا أناشد القائمين على وزارة التعليم لزيادة الجرعات المتعلقة بحرمة سفك الدماء، والجزاء المترتب على منتهك تلك الحرمة، وذات الأمر للشؤون الإسلامية أن يكون للخطباء والدعاة دور في إيصال الحكمة من القصاص في الشريعة، وتوعية العامة بأهمية التمسك بما جاء في الوحيين وبيان فضل العتق ومنزلة ومكانة التنازل لوجه الله.

وفي الوقت نفسه فإن على وسائل إعلامنا بصوره الثلاث (المرئي والمسموع والمقروء) الدور الكبير في نبذ مثل هذه المبالغات وبيان منزلة من يتنازل، أو يكتفي بما شرعه الله.

وكذلك إبراز ما يصدر من قرارات وتوجيهات في هذا الشأن، من أوامر من ولاة الأمر، ومن الجهات القضائية، فقد حسم المجلس الأعلى للقضاء الجدل بتحديث الديات المتعلقة بقضايا القتل العمد والخطأ، بعد أن تلقى أمرا ملكيا بالموافقة على تعديل مبلغ الدية، من 100 ألف إلى 300 ألف ريال للقتل الخطأ، و400 ألف ريال للقتل العمد، ووافق مجلس الشورى على التوصية لإيجاد ضوابط للحد من المبالغة في ديات التنازل عن القصاص وإغلاق باب تجارة الدم الذي برز شبحها مؤخرا بشكل فاضح، وفق ما نشرته إحدى الصحف المحلية عام 2017.

إن من نافلة القول أن المبالغة في طلب تعويض الديات يعد بمثابة إلغاء لمقاصد هذه العقوبة، وتحويلها إلى تجارة مقيتة تدخل في باب النهي وتتنافى مع مبدأ العفو والتسامح الذي من أجله شرعت الدية.

وكم هي مؤسفة تلك التجمعات وإقامة المخيمات لجلب هذه الديات، في مظهر سلبي بات يشوه صورة مجتمعنا، وهو ما يتطلب التحرك الفاعل لنشر ثقافة العفو والتسامح بين الناس عبر جميع الوسائل، ولجان إصلاح ذات البين - التي كانت محور مقال الأسبوع الماضي- تقوم بأدوار إيجابية في الإصلاح بين الناس، ويمكن أن تكون هي المظلة الوحيدة لمعالجة مثل هذه القضايا، بعيدا عن المزايدات والمبالغات في الديات.

وفي تصوري أن الأمر يحتاج إلى صرامة أكبر في تطبيق الدية التي نص عليها الشرع، وجعل «في القصاص حياة» واقعا، والأمر في غاية الوضوح، والتحول إلى طلب مبالغ فلكية هو ابتعاد عن الخط الذي رسمه الشارع.

وأعيد التأكيد

على معالجة هذا الأمر بنشر ثقافة التسامح أولا، وبيان مقاصد الشريعة السمحة، فالعالم ينظر إلينا كمجتمع يطبق القرآن والسنة منهجا وتشريعا، وهذه المطالبات بهذه المبالغ تجعل صورة مجتمعنا مشوشة ومكانته مهزوزة.

فهل نطمع بتشريع يؤطر لهذه الظاهرة، ويحدد مبلغا لا يمكن تجاوزه بحال، وإذا ما أريد التجاوز فالقصاص هو الحل؟!