نظرية الرصيف للمدير الحصيف

الجمعة - 25 يناير 2019

Fri - 25 Jan 2019

قبل اجتياح الألعاب الالكترونية عالمنا المعاصر، كان الصغار والكبار يقضون فترة ما بعد الظهيرة في الطرقات إما للعب أو التحادث وتبادل الأخبار وقضاء أوقات ماتعة. الرصيف كان يتسع للجميع، وأتذكر كثيرا كيف كان يجلس الأصدقاء المقربون لبعضهم على حافة الرصيف ويتبادلون الأحاديث الجدي منها والهزلي. هذه اللقاءات يتخللها بعض جلسات الدراسة والمراجعة بين الطلبة وقت الامتحانات من باب المساندة والدعم لبعضهم البعض. الكبار كانوا أيضا يستغلون الرصيف لتبادل الأخبار وللتجارة أيضا. مع ذلك يحاول الكل إعطاء الطريق والرصيف حقه كما جاء في تعاليم الإسلام، مثل غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الرصيف في التراث ذكره الرحالة العربي ابن بطوطة في كتابه «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، حيث قال «ومنها أوقاف على تعديل الطرق ورصفها لأن أزقة دمشق لكل واحد منها رصيفان في جنبيه يمر عليهما المترجلون ويمر الركبان بين ذلك». حديثا، من الرصيف بدأت شرارة الانهيار المشهور لبورصة نيويورك في بداية القرن الماضي، بالرجوع إلى القصة المتداولة بين أحد أفراد عائلة روكفلر الثرية مع ماسح الأحذية.

إذن الرصيف استخدم حتى عهد قريب كوسيلة للتواصل الاجتماعي الإيجابي مع الآخرين. مفهوم الرصيف وما يوفره من بيئة فعالة للتعامل مقارب للمفهوم الحديث في الإدارة وهو «الإدارة بالمشيmanagement by walking around» الذي قيل إن أبراهام لينكولن ابتدعه في بدايات الحرب الأهلية الأمريكية. وذكرت مصادر أخرى أن شركة هيوليت باكارد طبقته كنهج إداري في بداية السبعينات الميلادية. شخصيا أرى الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه طبقه قبل الجميع بمنظور آخر في قصته المشهورة مع المرأة وصبيتها الجياع.

المهم هنا هو فكرة خلق بيئة تساعد على رفع التكلفة بين المدير وموظفيه للتواصل الهادف وسهولة التوجيه وحل المشكلات وفهم التفاصيل. بيئة قد لا توفرها الاجتماعات الرسمية أو الجلوس خلف المكتب، هنا المكتب يشكل حاجزا فيزيائيا ونفسيا ومعنويا للتواصل الإيجابي.

المدير الحصيف يستطيع توظيف مفهوم الرصيف بخلق بيئات مختلفة مقاربة للرصيف. مثلا تناول الغداء مع الموظف أو من خلال المشي معا وقت الراحة أو من خلال المرور على مكاتب الموظفين وشرب القهوة أو الشاي معهم دون تكلف، المهم هنا هو السعي لفهم أكثر لشخصية الموظف ومستوى طموحه بطريقة غير مباشرة والتواصل البناء معه.

شخصيا استفدت وأفدت من عادة تناول الغداء مع الموظفين منفردين وعلى فترات متباعدة، وكلنا وجد هذه الساعة مفيدة لزيادة الإنتاجية بشكل عام. استطعت أن أفهم بشكل أسرع إمكانات الموظفين وطرق تفكيرهم ومستوى طموحاتهم.

استطعت أيضا كسب تأييدهم للاستراتيجيات والأهداف الجديدة وتقبل المهمات باقتناع، وفي نهاية الأمر الكل كان رابحا على المستوى الفردي وعلى مستوى المنظومة بشكل عام.

نظرية الرصيف الإدارية نفتقدها كثيرا داخل المؤسسات الحديثة بسبب طغيان التواصل الرقمي مثل الإيميل أو الاجتماعات الرسمية المحددة أجندتها مسبقا، مما يعدم الجانب الإنساني من التواصل بين الجميع.

في النهاية يجب عدم التفريط بأساسيات الإدارة من تخطيط وتطوير وتوجيه ومراقبة، وبين تطبيق مفاهيم أقرب ما تكون إلى أساليب وفروقات شخصية في ممارسة الإدارة، ما ينجح مع البعض قد لا ينجح مع آخرين، وما قد ينجح في بيئة معينة قد لا ينجح في بيئة أخرى. المهم هو خلق بيئة فاعلة للتواصل الفعال، وكما قال أحمد الشقيري «ستختفي كثير من المشاكل إذا تعلم الناس الحديث مع بعضهم البعض أكثر من الحديث عن بعضهم البعض».

msnabq@