عبدالله الأعرج

بيت دونالد!

الاحد - 20 يناير 2019

Sun - 20 Jan 2019

عام 2003 كنت مبتعثا إلى أستراليا، وكانت الحياة هناك - بالنسبة لي - مختلفة تماما. نعم كان هنالك وعي ملحوظ وانضباط ملموس من الناس في قضايا المواعيد واصطفاف السيارات وعبارات المجاملة، إضافة إلى نظام عقاري دقيق يحفظ ممتلكات المؤجر والمستأجر وغيرها كثير.

بيد أنه لفت انتباهي أن قضايا بعيدة المدى لم تغب عن تخطيط كثير من الأفراد في حياتهم، وأن ما لمحته من المظاهر الانضباطية لا يعد أمرا مبهرا مقارنة بقضايا ربما رآها البعض مستحيلة الحل، بل وعصية على التبديل والتغيير.

وها هو دونالد - جاري الأسترالي اللطيف - ذو الـ 70 خريفا دائم البشاشة، وطالما قطف لجيرانه وردا من حديقة منزله الخلفية. وعلى الرغم من كثرة ثرثرته إلا أنه كان مقبولا لدى أهل الحي، نظير طباعه الحسنة وسخائه غير المتوقع في بلد يفكر فيه الفرد ثلاثة أيام بلياليها قبل أن يصرفا سنتا واحدا!

وقبل مغيب شمس أحد الأيام كنت أتحدث من شرفة شقتي المقابلة لمنزل السيد دونالد وأضحك معه، وفي صباح اليوم التالي استيقظت متوجها للجامعة كعادتي لأجد منزلا آخر غير منزل دونالد أمامي! لا أخفي أنني استعذت بالله من الشيطان حينها، فكيف لبيت آخر أن يبنى في ظرف 12 ساعة أو أقل؟ وكيف لمنزل جديد أن يشيد بين عشية وضحاها؟ وفي تلاطم هذا الكم الهائل من الأسئلة ألفيت دونالد أمام هذا المنزل الجديد، فهرعت إليه وسؤالي ينطق قبلي: منزل من هذا؟ أين منزلك؟

ضحك صاحبي وأجابني بأن هذا المنزل هو منزله نفسه ويسمى Queenslander، وأن كل ما في الأمر أنه أحضر رافعة كبيرة في الصباح لتغيير واجهة منزله المتحرك للجهة الشرقية لأنه - على حد قوله - غير مجبر أن يرى ذات الإطلالة والجيران أنفسهم لمدة عام آخر!

غادرت المكان وأنا والله لا أعلم ماذا يجب أن تكون ردة فعلي؛ هل أستغرب من تقنية المنازل المتحركة؟ أم أضحك من بعد نظر دونالد؟ أم أفيق من حلم غريب لمنزل بني في 12 ساعة؟ أم أفكر في منزل مشابه حين عودتي؟ أم أسأل عن مكان الفناء الداخلي الذي كان يقطف منه الورد لنا كل صباح؟

وصلت بعدها لنتيجة حتمية أن هؤلاء البشر لا يعيشون يومهم بقدر ما يفكرون بغدهم! واقتنعت أيضا بأن فكرة المستحيل لا تقف عند أبوابهم، بل إنهم يصبحون أشد إصرارا على إيجاد حلول عملية لما يظنه البعض من نسج الخيال، كتغيير الجيران أو استمطار السحاب، بل وصنع الأثاث من المخلفات!

خلاصة هذه القصة التي ما زالت تحضر لذهني رغم قدمها أننا اليوم أشد حاجة للتفكير بجنون لصنع الحكمة. وأن الحدود التي تسمى «مستحيلا» لم تعد بذات المتانة والصلابة. نحن أيضا بحاجة اليوم لتنمية الفكر الريادي (المختلف) الذي لا يكرر نسخا من المشاريع، بل يتسابق ليأتي بالجديد وغير المسبوق وغير المألوف الذي يقدم خيرا للإنسان ونماء للأوطان.

دونالد لم يصنع المنزل المتحرك يا رفاق، لكنه صنع الفكر لدى جيرانه، وألهب حماسهم لمحاكاة التجربة، بل والتفكير بنقلها إلى خارج القارة الأسترالية لتكون حديثا لكثيرين حول العالم، ونقطة تحول في طريقة التعاطي مع الحياة. دونالد لم يكن مجرد جار، بل كان ملهما للعقول ومحفزا للتخطيط وناقلا للفكر، مع احتفاظه بكامل أناقته كصاحب بسمة وموزع ورود!

dralaaraj@