خالد العماري

سقف المعقولات

الخميس - 29 نوفمبر 2018

Thu - 29 Nov 2018

كثر الاشتغال في علوم شتى فيما يرد على النفس من مسموعات وآثار محسوسات وأمور لا شعورية، وكيف تؤثر هذه الأشياء في وعينا وطريقة فهمنا وأحكامنا ومواقفنا، لكن البشرية لم تجهد في شيء من ذلك جهدها في المعقولات؛ ذلك أن العقل هو الخصيصة البشرية التي يكون بها التمايز ظاهرا، والتأثير بينا، ليس على مستوى الأفراد، بل على مستوى الثقافات والحضارات والثورات والمنجزات.

وبغض النظر عن ماهية المعقولات، وطبيعة أثرها في النفس، وآثارها في العالم، إلا أن هناك ما يمكن تسميته «سقف المعقولات» بالنسبة لفضاء الفكر الإنساني، وهو يشبه إلى حد كبير السماء التي نراها بالنسبة لما بعدها، حيث إن معقولاتنا ارتبطت بشكل قسري بالكينونة الإنسانية القابعة داخل هذا الوعاء الظرفي، كما أنها ارتبطت بشكل سببي بالزمن والمنجز المعرفي الإنساني العام، ولذا كان سقف المعقولات مجازيا مرنا، يتراءى للإنسان بقربه وإحاطته، لكنه يرتفع كلما اقترب الإنسان منه، فلا يلامسه إطلاقا، رغم كل المحاولات الكبيرة للعقول الفذة في الاقتراب منه والتعرف عليه، وهذه المسافة بين الإنسان وبين سقف معقولاته في كل حقبة زمنية هي المكون الحقيقي لفضاء الإبداع والإمتاع العقلي، وهي المحفز لاشتغال العقول خارج نطاق المعقولات الموروثة والمدركة والمعتادة، وهي قنطرة العبور إلى المستقبل بعيدا عن التقليد والتبعية والاجترار الثقافي.

التعرف على سقف المعقولات من وجهة نظري مهم فيما ذكرتُ من اكتشاف الفرص الحقيقة في الاشتغال الفكري المنتج للفلسفة والمعرفة والعلم، ومهم في البعد الأخلاقي ولمعرفة حدود الجهد البشري لكيلا يطغى، ويذهب كل مذهب.

إذا كانت المعقولات مرتبطة بمحسوسات الإنسان فالحس محدود مهما بلغت التقنيات السمعية والبصرية والحسية، لكن قدرتنا على الإحساس وفهمنا للعالم المحسوس تتفرع وتتطور باستمرار، وإن كانت المعقولات مرتبطة بالتجربة الإنسانية والاجتماعية فهي محدودة بالظروف والأحوال والحلقة الزمنية المقدرة بالعقد أو القرن أو الألفية، إلا أن التجارب الجديدة لا زالت تخبرنا بالمزيد عن تفاعل الإنسان مع محيطه وظرفه، وإن كانت المعقولات مرتبطة بالوحي، فنصوص الوحي الخاتم لا وجه لتطور النص فيها، لكنها حافلة بالآيات والبينات، وفيها مجال ضخم للكشف عن المعقولات والدلالات، وإن كانت المعقولات مرتبطة باللغة فأصول الكلمات تكاد تكون محصورة في المعاجم، والتأثيل كفيل برد الشاردة والواردة إلى أصلها، لكن في مقابل ذلك لا تزال اللغة حيوية وقادرة على إنتاج المزيد، ولا زال الاشتقاق فاعلا والاصطلاح مستمرا.

تاريخيا اشتغل العقل الفلسفي على وجه الخصوص والفكر الإنساني بشكل عام بالأساطير، والعلاقة مع الطبيعة، وما وراء الطبيعة، والعقل والحواس، والواقع والمثل، والدين والعلم، والمجتمع والإنسان، والاقتصاد والدولة، والتاريخ والصراع، والاجتماع والعمران، واللغة والمعنى، وغيرها كثير، وفي كل حقبة زمنية هناك جدليات ومشكلات مهيمنة على الفكر العام لا يستطيع الإنسان السلامة منها في وقتها، ولا يمكنه اختراق سقف معقولاتها، ما لم تكن هناك تحولات كبرى، كالتدافعات والثورات والحروب والكوارث التي من شأنها أن تفرض أسئلة وتساؤلات، بل ومساءلات للمرحلة الماضية، تفضي بجهود النخب إلى رفع سقف المعقولات الحالية، ولذلك فإن من العجز أن نعيد حكاية ماضي المعقولات في غير إطار الدرس التاريخي، الذي نعرف به نوع وحجم المعقولات التي كانت مجال الاشتغال في حقب ماضية، وكيف أن كثيرا منها أصبح مدركا بالبداهة، وقريبا من المعقولات الضرورية في حقب تلتها!

ولذا نعجب ممن يقيم سقراط والسوفسطائيين من قبورهم، ومن يبعث صراع الدين والكنيسة، وثارات الخوارج والشيعة، وجدليات المعتزلة والأشاعرة، ويجتر صراع الأيديولوجيات التاريخية، دون أن يكون ذلك درجة عابرة في سلم الصعود لسقف معقولات هذا العصر.

سقف المعقولات ليس حدا يضيق به العقل، وليس نتائج ومسلمات يجب أن نصل إليها، بل هو ظاهرة عقلية عامة، تعري لنا كل السقوف التاريخية والوهمية والدنيا، وتكشف لنا العقول التي لا تنظر للأفق الممكن في سيرها المعرفي، أو لا تكاد تراه، أو توهمنا بأن الدرج سقف لا يمكن تجاوزه، والصعود عليه.

ammarikh@